أمام ما تواجهه إيران في سوريا من قصف إسرائيلي وفي بعض الأحيان أميركي، لم يعد هناك من خيار أمامها سوى البحث عن وسائل ضغط للحدّ من هذا القصف المتصاعد والمؤلم، غير أن معظم جبهات القتال المتوقفة منذ ثلاث سنوات لم تعد مثالية لعملية الضغط نتيجة الآثار التي أحدثتها اتفاقيات الجنوب السوري المبرمة عام 2018، واتفاق موسكو الخاص بإدلب لعام 2020، المبرم بين تركيا وروسيا.
وكان من أنسب الخيارات الميدانية المتاحة لدى إيران، تحويل سوريا إلى ساحة لتبادل الرسائل مع الأطراف الإقليمية والدولية من خلال تمكين قواعدها العسكرية الممتدة على كامل القوس الإيراني من الحدود العراقية شرقا ولغاية القلمون الغربي الواقع تحت نفوذ ميليشيا "حزب الله" اللبناني، وعلى هامش ذلك تعمل على إثارة الجبهات الخاملة بين الحين والآخر في مناطق سورية متفرقة، ونقل عملياتها من الأوضاع الهجومية إلى الدفاعية وتفويض "حزب الله" بتشكيل الساحة اللبنانية على المستوى الداخلي وعلى مستوى علاقتها مع إسرائيل في عملية ترسيم الحدود، وإطلاق يد الحوثي للعبث في اليمن وتعطيل العملية السياسية في العراق.
وبمعزل عن مؤشرات المسار التفاوضي الخاص بالاتفاق النووي، تدرك طهران أنها أمام جملة مآزق يأتي في مقدمتها، تحفُّظ الولايات المتحدة على الوجود الإيراني بالقرب من مناطق نفوذها، وتنافسها مع إسرائيل لتدمير المنطقة، علاوة على الخطر الذي تشكله روسيا في نزاعها الخفي مع طهران للسيطرة على المناطق الخاضعة لنفوذ نظام الأسد، حيث تتربص موسكو اللحظة التي تهزم فيها الميليشيات الإيرانية، لتبادر إلى الحلول مكانها.
من ناحية المأزق الأول، كانت الولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى البادية السورية بوصفها معاقل وملاذات آمنة لمقاتلي تنظيم (داعش)، لكنّ هذه النظرة تراجعت إلى حدٍّ ما وبات خطر الميليشيات الإيرانية يتزايد، ولا أدلَّ على ذلك من استهداف القواعد الأميركية شرق الفرات بصواريخ الميليشيات، وهذا ما جعل واشنطن تعلن استئناف التعامل والتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وفصيل مغاوير الثورة في منطقة التنف، في مجالات مكافحة الإرهاب وحماية آبار النفط شرق الفرات، وتأمين قاعدة التنف، من خلال بناء قدرات حلفائها، وهو ما أفصح عنه مسؤولون أميركيون في أثناء لقاءاتهم الأخيرة في المنطقة.
ومن ناحية المأزق الثاني، شرعت إسرائيل باستهداف مكثف للتواجد الإيراني، ليس في الجنوب السوري فحسب، بل وحتى في وسط وشرق سوريا لتصوغ إسرائيل ومعها الغرب خرائط المنطقة بعيدا عن إيران الهشة، حيث تحاول إسرائيل منع التمركز الإيراني فيها استباقا لأي مواجهاتٍ مستقبلية، لما قد يسفر عنها من اختلالات تخدم مشروع إيران، وتجعل من تطلعها إلى السيطرة على الجنوب السوري أصعب من أي وقت مضى، فيما تشهد مدينة "الميادين" شرق سوريا انسحاب بعض الميليشيات الإيرانية، تزامنا مع تحليق مكثف لمروحيات تابعة للتحالف الدولي.
أمام هذه التفاعلات المتناقضة، المنطقة تدخل الفصل الأخير من العبث الذي تقوده إيران وإسرائيل باتجاه ترتيب جديد يمكن إدراجه في خانة الصراع على المدى الحيوي والاستراتيجي وتقاسم مناطق النفوذ في الإقليم على حساب مصالح دوله التي تحولت إلى مسرح تلعب فيه طهران لتحقيق طموحاتها التوسعية الإمبراطورية.
في حين يبرز المأزق الثالث من خلال حشد القوات الإيرانية قرب حدودها المشتركة مع أذربيجان، وذلك لقطع الطريق أمام حلف الناتو، وتعزو طهران الهجوم الأذربيجاني الأخير على أرمينيا أنه جاء بتوافق أذربيجان مع سياسات أنقرة حليفة الناتو في المنطقة، والذي يسعى بحسب الإيرانيين للوصول برا إلى مياه بحر قزوين عبر ممر زنغزور، وقطع اتصالها بيريفان التي تعتبر بوابة إيران نحو أوروبا الشرقية.
ولعل اغتيال "مهسا أميني" أثناء اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق في إيران، أطلقت موجة احتجاجات لاقت قمع السلطات الإيرانية وحصدت العشرات من الشباب. وفي كل الأحوال، تمثل سوريا القاسم الاستراتيجي المشترك بين مختلف أطراف الصراع، لكن ما تقوم به إيران من تحويل سوريا إلى قاعدة عسكرية، يمثل دلالة واضحة باتجاه غاية أوسع وهي الاقتراب من الحدود الأردنية عبر جبهة استراتيجية جديدة جعلت الأردن يواجه وحيدا ميليشيا "حزب الله" اللبناني التي تدفع بكميات ضخمة من المخدرات عبر أراضيه وصولا إلى الخليج، علاوة على التموضع العسكري الإيراني على حواف الجولان السوري، مما يجبر سلاح الجو الإسرائيلي على شن غارات على مواقع إيرانية في الداخل السوري مرات عديدة في الأسبوع الواحد.
وأما التقارب بين نظام الأسد وتركيا، فيجعل طهران أكثر قلقًا من أي وقت مضى بشأن خطط أنقرة في سوريا، وبالأخص بعد التقارب التركي الإسرائيلي وإعلان وزير الخارجية يائير لبيد أن قوات الأمن التركية أحبطت مؤامرة إيرانية لاغتيال سياح إسرائيليين، وتعمل تركيا أيضا على تطوير علاقاتها مع خصوم إيران الإقليميين الآخرين، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، والأخطر من ذلك بحسب الإيرانيين احتمال قيام تركيا بدور أكثر نشاطا في اليمن ضد الحوثيين المدعومين من إيران وفي أذربيجان على حدودها الشمالية.
وتواجه إيران بخطط عسكرية التحركات التركية من خلال تعزيز وتسهيل التعاون بين الميليشيات، حيث أرسلت ميليشيات إلى نبل والزهراء بريف حلب الشمالي قرر الحدود السورية مع تركيا. وانتشرت قواتها على خطوط المواجهة مع "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا في شمال حلب ومحيط عفرين. في الوقت نفسه، كانت هناك تقارير تفيد بأن إيران أنشأت غرفة عمليات مشتركة شمال حلب تتكون من وكلائها السوريين وغير السوريين، ووحدات الحماية الكردية وحزب الله اللبناني، ويعتبر هذا التنسيق العسكري الأكثر شمولاً بين القوات المدعومة من إيران والميليشيات الكردية منذ بداية الصراع السوري.
ومع ذلك، علينا أن نتوقع أن إيران ليست لقمة سائغة لأن الحرب في سوريا في مجملها، شديدة التشابك مع قضايا إقليمية ودولية من أبرزها الاتفاق النووي الإيراني. لذلك، فإن بناء قواعد إيرانية جديدة في محافظة دير الزور والدفع ببعض ميليشياتها إلى مناطق الاشتباكات بين قوات نظام الأسد وفصائل المعارضة، والتحرش بالجيش الأردني في الجنوب السوري، مِن شأنه زيادة فرص إيران في فرض إرادتها، وتحقيق أجنداتها السياسية والاقتصادية، أو على الأقل استخدام كل ذلك كوسائل ضغط للحدّ من القصف الإسرائيلي المتصاعد والمؤلم.
بلدي نيوز - (تركي مصطفى)