تبدو حدود لبنان تقريباً هادئة. هذا هو الوقت المناسب الموصى به للتنزه في شمال إسرائيل، لكن علينا ألا نخطئ سلم الأولويات العسكرية الحقيق فتحويل القوات إلى “المناطق” [الضفة الغربية] إنما جاء لضرورة محددة، وهي فقدان الشعور بالأمان في أوساط الجمهور عقب حدوث العمليات، والمزاج العام لدى الجيش بقي على حاله منذ عقد تقريباً؛ يتحدثون عن إيران ويستعدون لحرب في لبنان، وفي النهاية يحاربون في قطاع غزة مرة كل بضع سنوات.
في الأسبوع القادم سيتغير الضابط المسؤول عن القطاع الحدودي. هذا هو قائد فرقة 91، “فرقة الجليل”، العميد شلومي بندر، الذي شغل هذا المنصب مدة سنتين وثمانية أشهر. هذه كانت فترة متوترة في الساحة العسكرية الأكثر حساسية. ولكن باستثناء أحداث متفرقة التي نتج عنها فترات استعداد مطولة، يأمل بندر أن ينهي فترته مثل أسلافه بدون انعطاف حاد. فحرب لبنان الثانية صيف 2006، التي كان فيها أداء الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي مخيباً للآمال ومقلقاً، جلبت في أعقابها فترة هدوء غير مسبوقة في طولها. يبدو أن الحروق المتبادلة التي تلقتها إسرائيل و”حزب الله” شكلت في أعقابها ميزان ردع، ما زال صامداً بشكل ما. الجميع يهددون، لكنهم يسيرون على أطراف الأصابع. في هذه الأيام وحتى إشعار آخر (الذي قد يأتي في أي لحظة كالعادة) يظهر الجليل كأكثر الأماكن أماناً في البلاد.
بندر (47 سنة) ولد في حيفا، ويعيش الآن في “رمات هجولان”. وقد بدأ خدمته في الجيش كجندي في دورية هيئة الأركان، بعد ذلك قائد دورية وقائد وحدة “إيغوز” وقائداً للواء غولاني. بعد بضعة أشهر، سيصل للمرة الأولى في حياته إلى منصب في مقر وزارة الدفاع. فهو سيعين لإدارة مركز الأعصاب العسكري، قسم العمليات في قيادة الأركان. إذا لم يحدث شيء استثنائي، فسيواصل طريقه إلى عضوية هيئة الأركان برتبة جنرال بعد سنتين أو ثلاث سنوات. المحادثة معه تتعلق بالواقع الذي لا تنتج عنه عناوين في نشرات الأخبار التي تتناول أموراً أخرى، مثل الانهيار الاقتصادي والسياسي الطويل للجارة على الحدود الشمالية، وصعوبات “حزب الله” واستعداد الطرفين لحرب محتملة ثالثة في لبنان.
حتى قبل دخول بندر إلى منصبه في كانون الأول 2018 جرت الحادثة الدراماتيكية الرئيسية في الشمال وهي عملية “درع الشمال”، التي كشف الجيش الإسرائيلي في إطارها وأحبط ستة أنفاق حفرها “حزب الله” تحت الحدود إلى داخل أراضي إسرائيل استعداداً لهجوم مفاجئ في المستقبل. بعد ذلك، في كل صيف من الثلاث سنوات الأخيرة كانت هناك فترات توتر طويلة اقتضت أحياناً إبقاء جميع القوات الموجودة تحت قيادته في حالة تأهب قصوى لبضعة أسابيع. نبع التوتر من محاولات “حزب الله” الانتقام لموت مقاتليه في هجمات نسبت لإسرائيل في سوريا (إحداها الرد على هجوم جوي على بيروت). الهجمات الإسرائيلية وجهت بالأساس ضد جهود تهريب السلاح والتمركز العسكري لإيران في سوريا. سكرتير عام “حزب الله” حسن نصر الله، حاول ترسيخ قواعد لعب جديدة. في أخطر الأحداث في أيلول 2019 أطلق “حزب الله” صواريخ مضادة للدبابات على سيارة إسعاف عسكرية على الحدود مع لبنان. ولأنها أخطأت السيارة ببضعة أمتار وفر على الطرفين اشتعالاً كبيراً.
كل ذلك حدث في الوقت الذي غرق فيه لبنان في أزمة اقتصادية قاسية، حيث أعلن عنه كدولة غير قادرة على سداد الديون ووجدت صعوبة في توفير الاحتياجات الأساسية مثل الكهرباء والدواء وحتى الغذاء لمواطنيها. بندر على قناعة بأن تصميم “حزب الله” على التصادم مع إسرائيل في هذه الأوقات قد مس بالتعاطف معه من جانب المواطنين اللبنانيين. “أعتقد أن معظم الشعب اللبناني لم يعد يتأثر من محاولاته لطرح نفسه كحام للبنان. هذه الرواية تلقت ضربة”، قال. لم يعد “حزب الله” محل إجماع، ولا حتى في أوساط الشيعة. لقد تشكلت ضده معارضة داخلية. هناك الكثير من الأشخاص يريدون الحرية ويتحفظون من الأصولية. ودليل ذلك أن “حزب الله” يقتل معارضين من أبناء الطائفة عندما يهاجمونه.
“قبل سنة تقريباً قتل لقمان سليم في جنوب لبنان، وهو صحافي شيعي وجه انتقاداً لـلحزب. لا تنسى انفجار ميناء بيروت، فـ “حزب الله” كان يمتلك فيه مواد متفجرة، وحدثت الانفجارات في مخازن السلاح في أرجاء لبنان، والدروز في الجنوب غضبوا عندما أطلق “حزب الله” الصواريخ على إسرائيل من مناطق قراهم في آب الماضي. لدى اللبنانيين الكثير مما يخسرونه. الوضع الاقتصادي يمثل تهديداً فظيعاً. التضخم والبطالة مرتفعة، وهناك هجرة سلبية واضحة إلى أوروبا وأمريكا الجنوبية. سنيون ومسيحيون كثر غادروا لبنان، يقدرون بـ 120 شخصاً تقريباً في غضون سنتين”. وحسب قوله: “أثناء الأزمة، يوسع “حزب الله” موطئ قدم إيران في الوقت الذي يفقد فيه المواطنين العاديون الغذاء والوقود، أما شبكات الغذاء ومحطات الوقود بتمويل من إيران فتساعد الطائفة الشيعية. سيطرة إيران تؤثر على لبنان مثل ضفدع يطبخ رويداً رويداً في وعاء. وعندما تعيش إيران تحت عقوبات دولية، فإن مساعدتها لـ”حزب الله” تضررت، لكنها لم تتوقف. الجندي في الجيش اللبناني يكسب أقل من مقاتل “حزب الله”. جنرال لبناني يكسب 500 دولار في الشهر مثل مقاتل عادي في “حزب الله”. تأثير إيران خطير؛ لأنهم اليوم مستعدون أكثر اللعب بالنار أمامنا. “هل تؤدي الدولة عملها؟ تقديراتهم مختلفة عن تقديراتنا. نسبة الأداء متدنية: توفير الكهرباء يرتفع ويهبط. هناك الكثير من السوق السوداء”. في الشهر القادم، سيتم إجراء الانتخابات البرلمانية في لبنان. “أقدر أنه لن يتغير الكثير. “حزب الله” يسيطر جيداً على ما يحدث من وراء الكواليس. هو صاحب الحل والربط في الساحة السياسية، وفي النهاية سينجح في التوصل إلى التوازن الذي يسعى إليه. وفي الوقت الذي يطالب فيه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بإصلاحات، فإن هذه الإصلاحات تجري “وكأنها تجري”. “حزب الله” غارق في النظام الفاسد ولن يسمح له بالتغيير. هو جسم سياسي لا يقل عن كونه جسماً عسكرياً، وله مصالح اقتصادية داخل الدولة. سيفعل نصر الله كل ما في استطاعته لوقف تدخل غربي مخفف في لبنان”.
عبر من أوكرانيا
في كل زيارة في تشكيلة الجليل تتذكر المشاهد من ذاك الصيف الحزين في 2006. قائد الفرقة في حينه، العميد غال هيرش، طالب عبثاً بإجراء تغييرات في سياسة رد إسرائيل على طول الحدود، ومعلومات استخبارية شاملة أكثر، وتخصيص قوات أكبر وأفضل نوعية. هذا انتهى كما نتذكر باختطاف جنديين من الاحتياط، وحرب وانتهاء مسيرة هيرش العسكرية.
يقول بندر إنه ليس لديه تبجح للدخول إلى رأس نصر الله، ويذكر أن جزءاً من تقديرات الاستخبارات في الغرب بخصوص نوايا الروس في أوكرانيا قد تبدد. “مع ذلك، كنت أقول إنهم خائفون. سواء القيادة أو “حزب الله”. ولكن كقائد لفرقة يعيش هنا، فإن ما يحدث في الجبهة يومياً يقودني إلى افتراض حدوث مفاجآت، وأنه يمكن اتخاذ خطوة غير متوقعة. ثمة شيء ما تقريباً وراثي في جينات الفرقة. تكون طوال الوقت متوتراً جداً وقلقاً. هذا جيد، هذا يحافظ علينا يقظين. نعرف أن الواقع قد يقفز من صفر إلى مئة بصورة سريعة جداً”.
أهو على قناعة بأن ستكون لديه معلومات مسبقة عن عملية لـ”حزب الله” على الحدود؟ “أنشغل بهذا كثيراً. نملك معلومات جيدة عن “حزب الله”. ولكن على مستواي، عليّ أن أفكر بقدرات الطرف الآخر وليس نواياه. أرى ما يطوره ويحاول أن يسبقنا في تطوير برامجه. على أي حال، لا أسمح لنفسي بإدارة مخاطر على افتراض أني أملك إنذاراً استخبارياً”.
التغيير الأساسي الذي جرى على الحدود في السنوات الأخيرة يتعلق بوصول رجال “الرضوان”، وهي قوة النخبة في “حزب الله”، ونشرهم في لبنان بعد سنوات راكموا فيها تجربة في الحرب الأهلية في سوريا. “يملكون أدوات لم يكونوا يملكونها في 2006، على رأسها برنامج وقدرة هجومية في أراضينا. لقد زادوا منظومة النيران الموجهة لجبهتنا الداخلية وحسنوا قدرتهم الدفاعية من عملية برية إسرائيلية. رئيس الأركان يعتبرهم جيش إرهاب. أحد الدلائل الواضحة على الانتقال من عصابات إلى جيش هو تطوير تشكيلات هجومية واسعة، وليس فقط هجوم محدد أو دفاعي. وهذا ليس سيئاً بالنسبة لنا بالضرورة؛ فكلما تحولوا إلى صورة جيش وشكلوا نماذج ثابتة فإنهم يخلقون بهذا أهدافاً لهجومنا ضدهم، فالجيش يجب أن يتحرك ويجمع قواته، وهذا يترك آثاراً”.
بعد انتهاء الحرب الأخيرة، ظهر ميل لدى الجيش الإسرائيلي بتعظيم قدرات “حزب الله” القتالية، خصوصاً روح مقاتليه القتالية. يقترح بندر عدم المبالغة. “بالنسبة لي، هم يقتربون من القدرات التي نملكها. يعرفون العمل مع غطاء استخباري ومع النيران والوسائل القتالية الأخرى، مثلما فعلوا إلى جانب الروس والإيرانيين في قتالهم داخل سوريا. ولكنها منظومة أقل تعقيداً وتزييتاً من منظومتنا. “حزب الله” هو التهديد الأساسي الموجه ضدنا منذ سنوات، ونحن نخطط ونتدرب ونفكر بذلك. لدينا ربط أقوى بين الاستخبارات والنيران وعملية برية”.
حتى الآن يجد الجيش الإسرائيلي صعوبة في أن يحدد لنفسه ماهية الانتصار في المواجهة مع عدو، الذي هو ليس جيشاً بالضبط. في حرب لبنان الأولى في 1982 وصلت قواتنا إلى بيروت، لكنها انسحبت في أجواء من الكآبة رغم مغادرة ياسر عرفات ورجال م.ت.ف. في العام 2006 تقدمت القوات ضد “حزب الله” فقط 10 – 15 كم، وخرجت من لبنان بشعور تعادل مخيب للآمال. هذه مشكلة ما زالت القيادة العليا تفكر فيها، لكن من الواضح أنها تميل الآن للمس بممتلكات العدو أكثر من الاحتلال والاحتفاظ بأراض لفترة طويلة. ويقول بندر إن الهدف سيكون “إنهاء الحرب” حيث يكون “حزب الله” قد تلقى ضربة قاسية، وسنحاول التقليل من ترسانة سلاحه من جميع الأنواع والمس بالقادة والجنود. ونأمل أن يقود هذا إلى ردع طويل المدى”.
الجيش الإسرائيلي يتابع حرب أوكرانيا باهتمام، ويستخلص منها العبرة المهنية التي تشير إلى صعوبة احتلال مناطق حضرية مكتظة. منذ شهر تقريباً والروس يجدون صعوبة في احتلال مدينة ماريوبول في جنوب شرق الدولة، رغم التفوق الكبير في الجنود والوسائل القتالية. بصورة متناقضة بالتحديد، يساعد الدمار الشديد في المدينة القوات المدافعة بدرجة ما، التي تجد فيها حماية بسهولة. حسب أقوال بندر: “هناك الكثير مما نتعلمه مما يواجهه الروس. هذا يثبت بصورة ممتازة ما هو الصحيح وغير الصحيح الذي علينا فعله. كيف يجب أن تكون قافلة لوجستية، وكم هو مهم معالجة الدبابات والاستثمار في الوحدات المختارة والدفاع عن المدرعات من هجمات جوية”.
ثمة فرق واضح بين إسرائيل وروسيا يتعلق بقدرة روسيا على مواصلة المعركة التي مر عليها شهر ونصف تقريباً، رغم الاحتجاج الدولي الكاسح والإدانات والعقوبات. في حروب إسرائيل، يبدو أن الساعة الدولية على الأغلب تدق بصورة أسرع وضغط أكثر. يعتقد بندر أنه في حال حدوث حرب في الشمال، فإن الدمار الذي ستسببه صواريخ وقذائف “حزب الله” سيعطي الجيش الإسرائيلي، بصورة متناقضة، المزيد من الوقت وهامش العمل، والحصول على شرعية داخلية قوية لنشاطاته. حسب قوله: “لحزب الله الكثير من السلاح المتطور. لن يكون بالإمكان عرضه كجيش حفاة يتلقى الضربات”. ولكن “أي عملية هجومية واسعة لـلحزب ستلحق كارثة بـه وبدولة لبنان أيضاً”. رغم أن نصر الله يتعامل منذ سنوات بحذر نسبي في حربه الثنائية الطويلة أمام إسرائيل، يدعي بندر أن هذا الزعيم الشيعي يعاني من قلة تقدير بشأن قدرات الجيش الإسرائيلي الهجومية الحالية وبخصوص استعداد إسرائيل للقيام بخطوات بعيدة المدى إذا هاجمها. “وسيخرج منا شيء ما أعتقد أنه لا يفهمه حتى النهاية”.
ارتكبت إسرائيل طوال سنوات خطأ عندما وصفت أعداءها بالمتطرفين المليئين بالكراهية الأيديولوجية والدينية تجاهها، بل واعتبارهم غير منطقيين. هذه المقاربة تنطبق على إيران و“حزب الله”، وتبدو في السنتين الأخيرتين بدرجة غير قليلة، بالنسبة لقرارات اتخذها زعيم حماس في غزة، يحيى السنوار. يقول بندر إن نصر الله “منطقي، لكن منطقه هذا لا يتفق بالضرورة مع منطقنا. هل هو عاقل ومتزن في اتخاذ قراراته؟ حسب رأيي، نعم. السؤال هو: هل سيقود هذا إلى قرارات متوقعة من ناحيتنا؟ الجواب: ليس دائماً. لدي صعوبة معرفية معينة عندما أحاول فهمه. أنا إسرائيلي، ولست شيعياً – لبنانياً”.
بقلم: عاموس هرئيل
هآرتس 21/4/2022