لم تعد الفوضى في لبنان مجرد سيناريو يُحذر من الوصول إليه في بازار المزايدات السياسية والتحليلات الأمنية وعناوين الصحف، إذ أصبح بإمكان المراقب في البلاد أن يرى الفوضى ويقيسها بالأرقام والنسب المئوية والأخبار العاجلة، بعدما باتت واقعاً ملموساً يعيشه المواطنون وينجون منه يومياً.
تعيش البلاد على ضوء الشمس، وتغيب معها في ظلمة دامسة بعد استفحال أزمة الكهرباء وانقطاع شبه تام للمحروقات، ما أدى إلى عجز هائل عن إنتاج الطاقة في البلاد، ينعكس توقفاً متتابعاً لكل قطاعات الإنتاج؛ الصناعية والتجارية والزراعية والسياحية، ما يساهم في رفع نسبة البطالة التي تناهز الـ40٪ وفق تقديرات الأمم المتحدة، ومعها ترتفع معدلات الفقر التي تخطت حتى الآن الـ55% من عدد السكان.
لا كهرباء داخل المنازل، يغيب التكييف والتبريد، تغيب شاشات التلفاز وينقطع الإنترنت. خارج المنازل تغيب المستشفيات عن الخدمة واحدة تلو الأخرى، ومثلها معظم المرافق الحيوية في البلاد. تزداد المحروقات ندرة ومعها طول طوابير الانتظار، التي انتقلت أيضاً إلى أمام أفران الخبز العاجزة عن تلبية حاجة البلاد.
وحدها السوق السوداء تلبي كل الحاجات، وتزدهر على هامش الأزمات، بأسعار خيالية يتخطى معها ثمن علبة الدواء المنقطع أو صفيحة بنزين الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة)، ويساوي نحو 33 دولاراً. هذه السوق سجلت قبل أيام أعلى سعر ربطة خبز في تاريخ البلاد بلغ 25 ألف ليرة.
يزداد التنقل صعوبة وتكلفته ستتخطى نصف الأجور وأكثر بعد رفع الدعم عن المحروقات، ما يهدد مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة بالشلل التام وتوقف الموظفين عن الذهاب إلى العمل، لعدم جدواه، فيما رفع الأجور غير مجدٍ، وفق ما يؤكد الخبراء الاقتصاديون في ظل انعدام الاستقرار المالي الذي سيؤدي بالبلاد إلى مزيد من التضخم والانهيار.
وتعجز السلطة السياسية في البلاد، منذ آب 2020، عن إنتاج حكومة اختصاصيين تبدأ مسيرة إصلاح في البلاد ومكافحة فساد لاستعادة الثقة الدولية، ومعها الدعم المالي اللازم للنهوض بالاقتصاد، وتعتبر الأزمة السياسية الحادة بين الأطراف اللبنانيين العقدة الأساس في الأزمة الحالية.
ظواهر تزداد تطرفاً
في ظل هذه المعطيات، تبدو الفوضى اتجاهاً حتمياً في البلاد، وفق ما يؤكد أستاذ القانون والأكاديمي، الدكتور علي مراد، لاسيما وأن لبنان يعيش مرحلة ما بعد انهيار النظام الاقتصادي والمالي، ومعه النموذج الاقتصادي اللبناني الذي ساد البلاد لعقود طويلة.
هذه الفوضى تُترجم على شكل ظواهر جديدة تتخذ اتجاهاً عاماً في البلاد، أوضحها استباحة الناس لأملاك الدولة ومرافقها العامة وقرصنة الحيوية منها، كمحطات الكهرباء ومعامل التوليد وصهاريج المازوت، والاتجاه نحو مزيد من العنف في الشارع واقتحام منازل السياسيين والاقتصاص المباشر من المرتكبين، وغيرها من المظاهر التي تصنف كإنذار واضح على فلتان الأمور.
شركة كهرباء لبنان أصدرت، قبل أيام، بيانا أشارت فيه لازدياد عدد المحطات الخارجة عن سيطرتها إلى 8 محطات ليشمل محطات الحرج، البسطا، صور، بعلبك، المصيلح، الزهراني، وادي جيلو والنبطية، نتيجة ازدياد وتيرة الاعتداءات الحاصلة عليها من قبل بعض المواطنين، وقد عمل المعتدون في 5 محطات تحويل وهي صور، المصيلح، الزهراني، وادي جيلو والنبطية على إفادة المناطق التي تتغذى من هذه المحطات تحديداً من ساعات تغذية إضافية تصل لمعدل أكثر من 12 ساعة في اليوم، بينما تُحرم المناطق اللبنانية الأخرى من ساعات التغذية الكهربائية المحددة لها بسبب هذه التجاوزات".
ويضيف البيان أن معملي الزهراني والجية لتوليد الكهرباء تعرضا كذلك خلال الأيام المنصرمة إلى اعتداءات على هذا النحو والدخول عنوة من قبل بعض المواطنين، غير آبهين بتعريض سلامتهم الشخصية أولاً للخطر كما سلامة العاملين وسلامة المنشآت الكهربائية التي يُقتضى الحفاظ عليها من أي عبث منعاً لتضررها أو حصول حوادث لا تُحمد عقباها نتيجة مثل هذه الاعتداءات".
وبالفعل لم تمض أيام معدودة حتى شهدت محطة منطقة الحرش حريقاً أدى لانفجار المحول الكهربائي، لم يعرف سببه إذا ما كان مفتعلاً أم نتيجة سوء الاستخدام، ولكن الأمر أدى إلى انقطاع التغذية الكهربائية عن مناطق واسعة من مدينة بيروت.
ولم تكن محطة الحرش وحدها التي شهدت هذا النوع من الحرائق، حيث تكررت في مناطق عدة كشكا والجية والهرمل والشوف والضاحية الجنوبية لبيروت وغيرها من المناطق، الأمر الذي طرح فرضية الاستهداف المنظم لهذه المرافق التي من شأنها أن تل البلاد وترفع من حدة المعاناة وبالتالي الغضب الشعبي.
كما انتقلت هذه الظاهرة إلى محطات توزيع الإنترنت التابعة لشركة "أوجيرو" للاتصالات، حيث انقطعت الخدمة عن مناطق واسعة من لبنان شمالاً وجنوباً بسبب أزمة المحروقات، ازدادت حدة الأزمة بعد خروج نحو ١٢ سنترالاً عن الخدمة، أبرزها وادي خالد والباروك والعمروسية والمريجة وحلبا والقبيات، بعد صعوبة إمدادهم بمادة المازوت، إما بسبب ندرتها وانتهاء المخزون، أو بسبب سيطرة المواطنين على صهاريج المحروقات التابعة لشركة الاتصالات، وفق ما أكد مدير عام أوجيرو، عماد كريدية، في تصريحات صحفية.
ووصف كريدية الوضع بغير المطمئن، في حين أن "هيئة "أوجيرو" لا تتمكن من إيصال الصهاريج إلى المحطات بسبب توقيفها. أما المحطات الأخرى فهي تستلم الصهاريج ويعاد تشغيلها تباعاً".
من جهة أخرى، وفي سياق الفوضى نفسها، شهدت ضاحية بيروت الجنوبية واقعة اشتباك بين الجيش اللبناني من جهة ومسلحين من آل زعيتر من جهة أخرى، على خلفية أزمة المحروقات ومحاولة الجيش بسط سيطرته على محطات الوقود وتنظيم توزيعها.
المسلحون أعلنوا سيطرة مؤقتة على المنطقة، وإعلانها خارجة عن سيطرة الدولة، وأقدموا على ضرب احدى المحطات بالقذائف الصاروخية وأحرقوا محطة أخرى قبل أن يعيد الجيش فرض سيطرته على المنطقة التي لا تزال متوترة على أثر الحادث.
الفوضى مسار حتمي
يرى الصحفي والكاتب السياسي، أحمد عياش، أن "الفوضى هي مسار سيستمر طالما أن حلول الأزمة لم تتحقق بعد، بل على العكس الأزمات تتعمق اجتماعياً سياسياً واقتصادياً، ومعيشيا، وأزمة المحروقات أبرز مثال حالياً. هذا النوع من الأزمات واستفحالها إلى هذه المستويات تمثل اليوم الشرارة التي من شأنها أن تشعل الفوضى والعنف."
من جهته، يقول مراد إن النموذج الاقتصادي اللبناني الهش الذي كان يقوم على نظام طائفي من جهة، يصدر أزماته وتتبدل الهيمنة بين أركانه وطوائفه على الحكم، ونظام اقتصادي سائد من جهة أخرى يؤمن لهذه المنظومة الاستمرار. اليوم، مع انهيار هذا النموذج انتقلنا إلى آخر وهو مراحل انهيار الدولة ومن بعدها تحللها، وفي الوقت نفسه دخلنا على الصعيد الاجتماعي في مرحلة انهيار المجتمع في لبنان وقطاعاته الخاصة، كالقطاع التعليمي والصحي وانهيار الشركات وكافة مؤسسات القطاع الخاص في نظام اقتصادي غير موجه بالأصل، وفي هذه الحالة فكرة الفوضى والعنف الأهلي تصبح هي القائمة."
ويتوقع مراد أن "يدخل لبنان في مراحل من العنف الأهلي المتقطع، ولكن المستمر على مستوى معين فهذه المواجهات الأهلية مع الدولة أو الاقتصاص وتحصيل الحقوق في الشارع وبالقوة والعنف والبلطجة أو حرق المنازل والمؤسسات والمرافق العامة والاعتداء على المحولات الكهربائية والمحطات ومنازل السياسيين، كل هذا عنف اهلي يجب أن نتعايش معه من الآن فصاعدا في لبنان حيث سيكون موجودا بغض النظر عن موقفنا منه."
ويضيف "كل ما نشهده من احتقان في الشارع وعلى محطات المحروقات وفي زحمة السير هو تعبير عن تفتت سلطة الدولة، وقدرتها على احتكار العنف، وبالتالي حتى لو لم نصل إلى حرب أهلية لكننا قد نتجه إلى حالة من تفتت المجتمع ومواجهات أهلية مستمرة."
فقدان السيطرة
في الوقت نفسه، يلفت عياش إلى ضرورة عدم تعميم هذه الظواهر للقول إن لبنان سقط بين براثن الفوضى تماماً، "فالأمور لم تصل بعد لأن تكون حالة عامة وجماعية على مستوى المجتمع ككل، وإنما تأخذ طابعاً فردياً إن كان على صعيد الأفراد أو على صعيد حالات محدودة في المناطق".
تتحول هذه الفوضى إلى ظاهرة جماعية إذا ما لاقت تجاوباً عاماً، واتجه الغضب الشعبي نحو خطوات تصعيدية، بحسب عياش، "كالدعوات التي سمعناها في الأيام الأخيرة لإعلان عصيان مدني في البلاد. هذا النوع من ردود الفعل يكون لها دلالات واتجاه محدد ومعروف النتيجة، أما حاليا فلم تصل بعد إلى مرحلة ترك تأثير عميق على مجريات الأحداث في البلد، أما اليوم فردة الفعل لا تزال دون مستوي المتوقع في الحالة التي يعيشها لبنان، لاسيما بعد تمادي الأزمة ووصولها إلى آفاق مسدودة مع عدم القدرة على العودة إلى الوراء".
من ناحيته، يرى مراد أن "الفوضى التي نعيشها اليوم مؤشر على أن الناس ما عادت تنتظر شيء من الدولة ومؤسساتها، لكن أكثر من ذلك الأحزاب أيضا لم تعد قادرة على لجم غضب الناس وأن تتحكم فيه وتوظفه لصالحها، لأن الناس أصبحت مدركة أن هذه الطبقة وزعمائها باتوا هم أيضا عاجزين عن تقديم أي شيء بعد انهيار سطوتهم وصورتهم".
من المستفيد؟
هناك مستفيدون في لبنان من الفوضى السائدة وهناك من يحقق مصالح له بالسيطرة على مرافق الدولة، وفقا لعياش، "حيث يحلون أينما تغيب الدولة، يمتهنون الدخول على هذا الخط لتحقيق مكاسب مادية أو سياسية، وينطبق هذا الاتجاه على كافة المستويات، سياسيا واقتصادياً وأمنياً، ومن أعلى الهرم إلى أسفله، لكن الفوضى سترتد على مشعليها وهذه قاعدة ثابتة".
أما مراد، فيرى أنه ليس مهما اليوم إن كانت هذه الفوضى منظمة أم لا، وإن كان خلفها أحد أو تصرفات فردية، الأهم أن هذه الأمور اليوم تحصل وهي أمر واقع، ولا يستطيع أحد أن يردعه، فحتى إن كان هناك مسبب لهذه الأحداث ودافعين باتجاه الفوضى لأهداف مرحلية، هي فوضى ولا يمكن لأحد أن يتحكم باتجاهها.
وبالتالي، الذهاب للبحث عن المسؤول المباشر عن إطلاق أي عملية دفع باتجاه الفوضى في البلاد، والاستيلاء على مرافق الدولة، وفقا لمراد، "ليس مهما بقدر ما هو المهم تجاوب الناس مع هذه الدعوات وتحولها إلى ظاهرة منتشرة ومقبولة في المجتمع ومبررة في السياق العام".
ويختم عياش مشيراً إلى أن "أكبر المشاكل اليوم غياب المرجعية المرضية للناس، وما زال بالإمكان الخروج من الأزمة بوجود نية لذلك، ولكن الاتجاه السائد حاليا يفاقم الأزمة ويتجه نحو حيطان مسدودة، وكأن هناك من يريد العودة إلى الواقع السابق ويريدون التصرف بالاحتياطي الإلزامي للمودعين، وهذا ما لا يجوز أن يستمر بعدما استنزف خزينة الدولة واحتياطات مصرف لبنان ولم تصل إلى نتيجة".
المصدر: قناة الحرة