تعمل القوات الأمنية في العاصمة العراقية بغداد منذ أيام على تحصين المنطقة الخضراء التي تضم مقرات حكومية ودولية، إضافة إلى مكاتب بعثة الأمم المتحدة والسفارات الغربية، وشملت التحصينات الأمنية إغلاق أحد مداخل المنطقة الخضراء المعروف بـ"بوابة التخطيط" بكتل كونكريتية تسلسلية أعلى ارتفاعا من التي كانت في السابق، والتي تمكّن المتظاهرون المناصرون للتيار الصدري من إسقاطها في المظاهرات السابقة.
ولا تقف الإجراءات على تحصين المنطقة الخضراء فحسب، إذ تشهد بعض جسور العاصمة الرابطة بين جانبيها (الكرخ والرصافة) قطوعات، في حين تداول ناشطون مقاطع فيديو تظهر شروع القوات الأمنية ببناء بوابات حديدية على جسري الجمهورية والسنك إضافة الى الجسر المعلق.
ونتيجة السخط الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، أوضحت قيادة عمليات بغداد أن قطع جسر الجمهورية جاء لأغراض الصيانة، في حين لم تعقب على الصور التي تداولها ناشطون حول إنشاء بوابات حديدية على الجسر.
وتثير التحصينات التي تعمل عليها القوات الأمنية في بغداد العديد من التساؤلات حول أسبابها وفيما إذا كانت الأجهزة الأمنية تستبق شيئا ما أو تتخوف من طارئ أمني، في حين رفضت وزارة الداخلية العراقية التعليق أو الإفصاح عن أي معلومات بعد محاولات مراسل الجزيرة نت الاستفسار عما يحدث.
وبعد أيام على بدء نصب البوابات الحديدية على جسري الجمهورية والسنك، أفادت وسائل إعلام عراقية صباح اليوم الأربعاء بأن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أمر برفع البوابات الحديدية والاكتفاء بالإجراءات الأمنية التقليدية، في حين لم يصدر أي بيان حكومي بذلك سواء من خلية الإعلام الأمني أو من قيادة عمليات بغداد.
ولا يزال الانسداد السياسي سيد الموقف في العراق بعد أكثر من 11 شهرا على الانتخابات التشريعية التي لم تفض لتشكيل حكومة جديدة، وهو ما أدى إلى كثير من التعقيد في المشهد السياسي الذي أدى لاعتصامات ومظاهرات حاشدة لأنصار التيار الصدري في المنطقة الخضراء بعد استقالة نوابه في يونيو/حزيران الماضي، ثم تحول هذه المظاهرات إلى اشتباكات مسلحة في 29 أغسطس/آب داخل المنطقة الخضراء استمرت أكثر من 24 ساعة.
ويأتي تخوف الحكومة، وفق مراقبين، نتيجة إصرار الإطار التنسيقي (يضم القوى الشيعية باستثناء التيار الصدري) على تشكيل حكومة، وهو ما يرفضه التيار الصدري الذي توعد بأن أي حكومة جديدة لن تشكل بدون تحقيق الإصلاحات التي يطالب بها، وهو ما قد يشي بمظاهرات شعبية جديدة يرافقها دعوات من متظاهري أكتوبر/تشرين الأول 2019 للعودة إلى المظاهرات مجددا.
وتعقيبا على ما سبق، يرى أحمد الشريفي الباحث الأمني والإستراتيجي أن الاستحقاقات السياسية القادمة هي التي أدت إلى تحصين المنطقة الخضراء، حيث أن آليات الردع التقليدية والتي تشمل قوات مكافحة الشغب والحواجز الأمنية لا يمكن أن تقف بوجه أي تحرك جماهيري قد تشهده الأيام القادمة.
ويؤكد الشريفي، الموجود في بغداد، أن العاصمة تشهد نقمة جماهيرية وانقساما اجتماعيا غير مسبوقين في مناطق متداخلة بين فرقاء القوى السياسية التي تملك السلاح، لافتا إلى أنه وفي حال تدهور الأوضاع الأمنية، فإن ذلك سيجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، مع عدم قدرة القوات الأمنية على إيقافها انطلاقا من أن هناك العديد من الولاءات داخل المنظومة الأمنية والتي قد تؤدي إلى انقسام هذه القوات بحسب الولاءات، وفق تعبيره.
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى الشريفي أن البوابات الحديدية وتحصينات المنطقة الخضراء تشكل عوائق لكنها لن توقف الزحف الجماهيري المتوقع، لافتا إلى أن هذه الإجراءات تسببت برفع مستوى القلق لدى العراقيين نتيجة التوقعات بحدوث تصعيد خلال الأيام القادمة وتحديدا بعد انتهاء زيارة مراسيم زيارة الأربعين لدى الشيعة في 20 سبتمبر/أيلول الجاري.
ووفق الشريفي، فإن شروع الحكومة بمثل هذه الإجراءات جاء نتيجة توقعها لاحتمالية التصعيد مع معرفتها المسبقة بأن إجراءات الردع التقليدية لن تكون كافية، بما قد يعني أن التحركات الجماهيرية ستكون قاسية مع عجز الحكومة عن إيقافها وبما قد يهدد السلم الأهلي.
ويتابع الشريفي أن ما يثير الريبة هو أن التحصينات شملت للمنطقة الخضراء التي تضم الدوائر والوزارات فقط من دون الالتفات لاحتمالية أن تحدث تصفية حسابات بين فرقاء العملية السياسية في مناطق بغداد الأخرى، لا سيما مع تلويح جميع الفرقاء السياسيين باستخدام القوة.
على الجانب الآخر، يعلّق الباحث الأمني والعسكري فاضل أبو رغيف على تحصينات المنطقة الخضراء قائلا، إن هناك حالة تأهب تعصف بكل الكتل السياسية وكأن شيئا ما سيحدث في الأيام القادمة، وإن هذا الاستقراء ليس من قبل القوى السياسية وحدها، بل حتى من قبل سكان بغداد الذين لجؤوا لتخزين المواد الغذائية خوفا من حدث مشابه لأحداث نهاية الشهر الماضي.
وفي حديثه للجزيرة نت، يتابع أبو رغيف، المقرب من دوائر صنع القرار بالبلاد، أن الكتل السياسية ذاتها تعتقد أن هناك تصعيدا سيحدث بعد "زيارة الأربعين" من دون امتلاكها أي معلومات واضحة، وهو ما قد يعني بالمحصلة أن الجميع يسيرون تجاه المجهول، وفق تعبيره.
ولتدارك ذلك، وفق أبو رغيف، يؤكد أن البلاد بحاجة لما وصفه بـ"عقلنة" الخطاب السياسي والإعلامي، لا سيما أن هناك الكثير من المحرضين، وبالتالي تأتي هذه التحصينات متسقة مع حالة التوجس ولحالة وقائية، خاصة أنها تعد من المعرقلات التي ستؤخر نشوب أي حالة عنف شبيهة بما حدث قبل أسبوعين في بغداد، وفق قوله.
وعن ارتباط الملف الأمني بنظيره السياسي، يختتم أبو رغيف بالإشارة إلى أن الاحتقان الأمني مرتبط بالسياسي، وفي حال استمر الأخير، فإن هناك احتمالية لحدوث احتكاكات أمنية، معتقدا ان الوضع السياسي سيظل يراوح مكانه بين فرقاء العملية السياسية لكن بصورة ليست دموية، وفق رأيه.
ويؤشر تصاعد حدة الخلافات السياسية لسيناريوهات عديدة، بحسب الباحث السياسي غانم العابد، الذي يرى أن الوضع العراقي بات معقدا، وأنه لا أمل يلوح في الأفق للخروج من الأزمة الحالية، وأن الزيارة الأربعينية لدى الشيعة والتي ستنتهي في 20 سبتمبر/أيلول الجاري هي التي عملت على تأجيل تفاقم الوضع الأمني والسياسي.
وعن السيناريوهات المتوقعة، يعلق العابد، ستكون جميع السيناريوهات مفتوحة، لا سيما أن التحركات السياسية الأخيرة للإطار التنسيقي وإصراره على تشكيل حكومة بقيادة محمد شياع السوداني المرفوض من التيار الصدري سيقود الأخير إلى اللجوء للشارع مجددا، وسيمنع تشكيل هذه الحكومة في ظل عدم تنازل أي من الأطراف، وهو ما قد يؤدي لصدام مسلح كالذي حدث نهاية الشهر الماضي.
ويتابع العابد في حديثه للجزيرة نت، أن هذا التصعيد المتوقع يرافقه حلول الذكرى الثالثة لانطلاق مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث إن هناك دعوات للتظاهر مجددا، مما قد يضيف مزيدا من التعقيد، بما سيمهد الطريق لتدخل دولي في البلاد، بحسب تعبيره.
من جانبه، يصف المحلل السياسي غالب الدعمي المشهد العراقي بأنه شائك ويصعب التكهن بمآلاته، لا سيما أن طرفي الخصام المتمثلين بالإطار التنسيقي والتيار الصدري يسيران باتجاهين متعاكسين من دون وجود أي احتمالية للاتفاق، مع عمل كل طرف على إقصاء الطرف الآخر.
ولا يستبعد الدعمي في حديثه للجزيرة نت انطلاق مظاهرات شعبية جديدة في بغداد والمحافظات الأخرى مع اشتراك متظاهري حراك تشرين المعترضين على أداء الأحزاب السياسية، ما سيؤدي لموجة صدام جديدة، معلقا "لن يحدث الصدام إلا في حالة واحدة تتمثل بتطبيق رؤية تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني الداعية لاستبدال مرشح الإطار التنسيقي بآخر مقبول من التيار الصدري.
ويعتقد الدعمي أن المواقف الدولية قد تكون من بين السيناريوهات المطروحة، والتي قد تثني الإطار عن إصراره وتطالبه بالتفاهم مع التيار الصدري، انطلاقا من احتمالية تلويح دولي بعدم قبول أي حكومة يشكلها الإطار بعيدا عن تحالفات التيار الصدري والسيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، بحسبه.
المصدر: الجزيرة