تجدد الحديث أخيرا عن الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج وسط أنباء عن الإفراج عن جزء منها، وذلك مع تصاعد الضغوط الإيرانية للإفراج عنها في ظل شح النقد الأجنبي في البلاد على خلفية العقوبات الأمريكية المشددة منذ عام 2018 والتي استهدفت بالأساس موارد إيران بالنقد الأجنبي بحظر تام لمختلف أنواع صادراتها وبالذات الصادرات النفطية والغازية والبتروكيميائية.
تحول ملف الأرصدة المجمدة، خلال السنوات الأخيرة إلى عنوان تفاوضي على طاولة المفاوضات الأمريكية الإيرانية، سواء في المفاوضات الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015، أو المباحثات الجارية بشأن تبادل السجناء والتي تشترط فيها طهران الإفراج عن مليارات الدولارات مقابل الموافقة على صفقة التبادل.
كل تلك التطورات خلال السنوات الأخيرة جرت بشأن الأرصدة الإيرانية المجمدة من دون معرفة حجم هذه الأموال، وما أعلن بشأنها في داخل إيران لم يخرج عن سياق النقل عن تقارير غربية وأممية ومسموعات هنا وهناك.
إلا أن محافظ البنك المركزي الإيراني، محمد رضا فرزين، ولأول مرة كشف، أول أمس الإثنين، أن بلاده تمتلك أرصدة بالنقد الأجنبي في دول مختلفة تقدر بأكثر من 100 مليار دولار، من دون الإفصاح عن أسماء تلك الدول وحجم الأموال المجمدة في كل دولة على حد سواء.
ودعا المسؤول الإيراني في الندوة الـ30 للسياسات النقدية الإيرانية في طهران إلى اتخاذ "إجراءات سياسية ودبلوماسية لتحريرها"، مشيرا إلى أن "ثمة إجراءات قد نجحت في إحداث انفراجة بالنقد الأجنبي وتحرير الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج، وقريبا سنشهد نتائجها"، من دون الكشف عن المزيد من التفاصيل.
عزا محافظ البنك المركزي الإيراني، وفق ما أوردت وكالة "إيسنا" الإيرانية، عدم الاستقرار الاقتصادي في إيران إلى عدم استقرار أسعار النقد الأجنبي، داعيا إلى التدخل لضبط هذا الوضع و"تقليل التذبذبات وتحقيق استقرار اقتصادي".
أنواع الأرصدة المجمدة
حسبما رصدت "العربي الجديد" فإن الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج تنقسم إلى قسمين، الأول هو أرصدة وأصول حكومية إيرانية، والثاني أرصدة شركات غير حكومية، يندرج بعضها ضمن شركات شبه حكومية لارتباطاتها الخاصة، وفق موقع "خبر أونلاين" الإيراني.
إلى جانب الأرصدة الإيرانية النقدية المجمدة، ثمة أصول إيرانية ثمينة مجمدة في الخارج، يعود تاريخ تجميدها إلى بدايات الثورة الإسلامية عام 1979، مثل أسهم اشترتها إيران في العهد الملكي السابق في صناعات نووية فرنسية، وشركة "مرسيدس" الألمانية وخطوط نقل النفط لميناء العقبة وغيرها.
فضلا عن ذلك، ثمة أصول من عقارات وأبنية وعمارات إيرانية مجمدة في الخارج بأمر قضائي أميركي، مثل العمارة التاريخية للسفارة الإيرانية في واشنطن وأبنية معهد "علوي" في أمريكا وكندا.
أما الأرصدة النقدية المجمدة في الخارج، فهي عوائد صادرات إيران من النفط والغاز والمنتجات النفطية وغير النفطية.
لم يحدد محافظ البنك المركزي الإيراني، الاثنين، ما إذا كان 100 مليار دولار الذي تحدث عنه هو حجم الأرصدة النقدية المجمدة فقط، أم أنه يشمل جميع تلك الأرصدة النقدية وغير النقدية المجمدة في الخارج.
لكن الرقم الذي كشف عنه فرزين على الأغلب يشمل جميع أنواع الأرصدة المجمدة بالنظر إلى ثمة تقارير أميركية ودولية سابقة في هذا الصدد، حيث أعلنت خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي في تقرير عام 2020 أن قيمة الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج من أرصدة نقدية وعقارات تقدر بين 100 إلى 120 مليار دولار.
كما ذكر صندوق النقد الدولي في تقرير لعام 2022 أن قيمة الأرصدة الإيرانية المجمدة في أنحاء العالم حتى نهاية إبريل 2020 بلغت 115.4 مليار دولار.
وذكرت "ألينا دوهان" المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأثر السلبي للتدابير المتخذة من جانب واحد في تقرير لها بعد زيارة إلى إيران عام 2022 أن الولايات المتحدة في إطار إجراءاتها الأحادية لحظر موارد إيران المالية قامت حتى ذلك التاريخ بتجميد من 100 إلى 130 مليار دولار من الأرصدة الإيرانية.
خريطة توزيع الأموال المجمدة
لا تعلن إيران حجم أرصدتها وأصولها المجمدة في كل دولة في العالم، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو دول آسيوية.
ولذلك لا توجد تقارير إيرانية رسمية بهذا الشأن، إلا أن ثمة تقارير إعلامية وتصريحات غير رسمية إيرانية تشير إلى حجم تلك الأرصدة المجمدة في بعض الدول.
في السياق، يشار إلى وجود أكثر من 7 مليارات دولار أرصدة نقدية مجمدة في كوريا الجنوبية، وهي عوائد الصادرات من النفط.
ومارست طهران خلال السنوات الماضية، ضغوطا مكثفة على سيول لكنها لم تنجح في الإفراج عن هذه الأموال نتيجة مخاوف كوريا من العقوبات الأميركية، فضلا عن أن سيول أيضا تربطها علاقات تحالف قوية مع الولايات المتحدة.
إلى ذلك أيضا، تشير وسائل إعلام إيرانية إلى وجود 20 إلى 30 مليار دولار عوائد نفط مجمدة بسبب العقوبات الأميركية في دولة الصين التي تربطها علاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع طهران. لكن الخارجية الإيرانية ظلت تنفي وجود أموال مجمدة لإيران في الصين طيلة السنوات الأخيرة.
العراق هو البلد الآخر الذي توجد فيه أرصدة إيرانية مجمدة ـ هي عوائد صادرات إيران من الغاز والكهرباء ـ بسبب العقوبات الأميركية، ويشار في هذا الصدد إلى أرقام متضاربة في العراق، من 12 إلى 18 مليار دولار. لكن الرقم يتغير مع استمرار الصادرات الإيرانية.
كما تشير وسائل إعلام إيرانية إلى مليارين إلى ثلاثة مليارات دولارات في اليابان و1.6 مليار دولار في لوكسمبورغ، فضلا عن تجميد نحو ملياري دولار في الولايات المتحدة.
نفاد القطع الأجنبي
حاولت إيران كثيرا بشتى الطرق خلال السنوات الماضية، الإفراج عن أموالها في الخارج، لكن محاولاتها مع هذه الدول وخاصة كوريا الجنوبية والعراق لم تتكلل بالنجاح في الإفراج عن تلك الأرصدة في تلك الدول التي تواجه أيضا ضغوط وتهديدات أمريكية بعقوبات ثانوية في حال أفرجت عن هذه الأموال.
بالتوازي مع تفاقم شح النقد الأجنبي في البلاد وتراجع قياسي للريال الإيراني على خلفية ذلك، كثفت الحكومة الإيرانية، خلال العامين الأخيرين، ضغوطا على الولايات المتحدة من خلال تصعيد برنامجها النووي، أو الدول التي توجد فيها تلك الأموال وخاصة العراق.
وعليه، أصبحت واشنطن تسمح في سياق إدارة الأزمة مع طهران والحؤول دون تصعيد الموقف بإفراج متدرج عن بعض الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج لتسديد ديون إيرانية وشراء سلع أساسية.
ويوم الإثنين، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، في مؤتمره الصحافي إن بلاده اتخذت "خطوات مؤثرة" للإفراج عن أرصدتها المجمدة في الخارج.
وتابع أن طهران تتابع هذا الملف "عبر قنوات مختلفة"، لافتا إلى إجراء مباحثات مباشرة مع الدول المعنية التي توجد فيها تلك الأرصدة، فضلا عن مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة عبر دول الوسطاء لـ"التأثير على الموقف الأمريكي غير القانوني".
وفي السياق، كشف رئيس غرفة التجارة الإيرانية العراقية المشتركة يحيى آل إسحاق، السبت الماضي، عن إفراج الحكومة العراقية عن 2.7 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة بسبب العقوبات الأميركية، وهو ما أكدته الحكومة العراقية أيضا.
وقال "آل إسحاق"، في تصريح لوكالة "تسنيم" الإيرانية، إن جزءاً من تلك الأموال المفرج عنها خصص لتكاليف الحجاج الإيرانيين في السعودية، بينما رُصد الجزء الآخر لشراء السلع الأساسية.
وخلال مارس/آذار الماضي أيضا، سمحت الولايات المتحدة للعراق بتسديد نصف مليار دولار من مجموع المستحقات الإيرانية لديه حسبما كشف الأمين العام لغرفة التجارة الإيرانية العراقية، حميد حسيني آنذاك.
فيما تصر إيران على إعادة تلك الأموال المجمدة إلى الداخل نقدا، ترفض واشنطن السماح بذلك حتى الآن وعمليات الإفراج حتى الآن تمت فقط لشراء سلع أساسية وتسديد ديون إيرانية، إذ تحول تلك الأموال إلى حساب الشركات التي تشتري طهران منها تلك السلع.
وفي السياق، انتقد وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، أخيرا، طريقة دفع العراق مستحقات الغاز الإيراني المصدر إليه، قائلا إن الحكومة العراقية تشترط دفع هذه المستحقات من خلال إرسال الأدوية والمواد الغذائية.
وأضاف "أوجي"، في تصريحات للتلفزيون الإيراني، أن بلاده تمارس ضغوطا على بغداد للحصول على عوائد هذه الصادرات بالطريقة التي يختارها الجانب الإيراني، كما حصل مع عوائد صادراتها الغازية إلى تركيا.
وتجري إيران حاليا مفاوضات مع الولايات المتحدة عبر سلطنة عمان ودولة قطر للإفراج عن هذه المليارات في إطار صفقة تبادل السجناء التي تؤكد السلطات الإيرانية أنها باتت جاهزة قبل أكثر من عام، وتوصل الطرفان إلى اتفاق بشأنها، متهمة الجانب الأميركي بأنه تنصل من هذا الاتفاق. لكن ثمة توقعات أخيرا باقتراب حدوث انفراجة في إبرام هذه الصفقة.
وفي السياق، سبق أن كشفت مصادر إيرانية مطلعة لـ"العربي الجديد" أن ثمة مفاوضات قد جرت بين وفد من البنك المركزي الإيراني مع وفد مالي أمريكي خلال الشهور الأخيرة للاتفاق على صيغة حول طريقة الإفراج عن المليارات الـ7 في كوريا الجنوبية.
لم تترك إيران مجالا إلا وضغطت من خلاله على الإدارة الأميركية للإفراج عن أرصدتها والذي تصف تجميدها بأنها "غير قانوني"، منها المجال القانوني الدولي، حيث رفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية عام 2016 ضد واشنطن، باتهامها بانتهاك اتفاقية صداقة تعود لعام 1955 من خلال السماح للمحاكم الأميركية بتجميد ملياري دولار من أصول الشركات الإيرانية.
علما بأن هذه المعاهدة أبرمتها الحكومة الملكية الإيرانية قبل ثورة 1979، لكنها ظلت قائمة على الورق رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فحاولت الجمهورية الإسلامية الإيرانية توظيف المعاهدة في المحاكم الدولية للضغط على الإدارة الأمريكية.
وفي 30 مارس/آذار الماضي، أصدرت محكمة العدل الدولية، قرارا يقضي بأن واشنطن سمحت بشكل غير قانوني لمحاكم بتجميد أصول لشركات إيرانية، وأمر قضاة المحكمة، الولايات المتحدة بدفع تعويضات سيتم تحديد قيمتها لاحقًا.
لكن المحكمة قالت في الوقت ذاته، إن لا ولاية قضائية لها للحكم في قضية تجميد أصول للبنك المركزي الإيراني تتجاوز قيمتها 1.75 مليار دولار.
وقال كيريل جيفورجيان رئيس قضاة المحكمة، بعد إصدار القرار إنه "يحق لإيران الحصول على تعويض، وأن لدى الطرفين 24 شهرا للاتفاق على قيمته، وإذا لم ينجح ذلك فستبدأ المحكمة إجراءات جديدة لتحديد المبلغ الذي يتعين دفعه".
ووافقت الولايات المتحدة عام 2016 في إطار صفقة تاريخية لتبادل السجناء مع إيران على تسليم مبلغ 1.7 مليار دولار نقداً تم ارساله إلى طهران في طائرة خاصة.
وكان هذا الرقم جزءاً من المدفوعات الإيرانية وأرباحها إبان الحكم الملكي لقاء صفقات شراء أسلحة أمريكية ألغيت بعد الثورة الإسلامية عام 1979.
المصدر: العربي الجديد