“استولى على منزلنا في مدينة دير الزور منذ عدة سنوات أشخاص، قدموا من ريفها، مدعومون من قبل الميليشيات الإيرانية، حاولنا عن طريق الكثير من الوساطات إخراجهم منه، لكنهم لم يستجيبوا لدعواتنا وأصروا على البقاء والتصرف كما لو أنه منزلهم”.
بهذه الكلمات وصف شاهر (اسم مستعار) ما حلّ بمنزل عائلته في حي مجاور لفرع “الأمن العسكري” بمدينة دير الزور، عقب سيطرة قوات النظام السوري والميليشيات الموالية له على المدينة.
يشترط الأشخاص الذين استولوا على المنزل عودة أصحابه للخروج منه، مستغلين عدم قدرتهم على ذلك، يقول شاهر لعنب بلدي، “والدي توفي، وأمي كبيرة في السن لا تستطيع العودة بمفردها، وأنا وإخوتي خارج البلاد، ولدينا مشكلات أمنية مع النظام، وهو ما يجعل من الصعب علينا العودة أو حتى توكيل محامٍ للقيام بإجراءات استعادة المنزل”.
ويشير شاهر إلى قيام البعض باستغلال أوضاع المدينة وغياب الكثير من أبنائها عنها، لشراء العقارات بأسعار بخسة، وهو ما حصل مع عائلته التي تعرضت للابتزاز من قبل جهات مقربة من إيران حاولت شراء منزلها بسعر زهيد جدًا.
إيران تستغل نزوح الأهالي
منذ حزيران من عام 2012، بدأ الاستيلاء على منازل المدنيين في دير الزور من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري والميليشيات الأجنبية، وذلك إثر نزوح مئات الآلاف من الأهالي بسبب الحملة العسكرية الكبيرة التي شنتها قوات النظام على المحافظة.
وعمدت قوات النظام إلى ملاحقة كل من يُشتبه بتعامله مع المعارضة، أو قيامه بأي نشاط معارض، وفي أيلول من عام 2012، تُوّجت هذه الملاحقات باقتحام حيي الجورة والقصور، الذي ترافق مع قتل واعتقال المئات، بهدف بث الخوف والرعب في نفوس الأهالي، ما تسبب بنزوح مئات العائلات.
وبعد سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على مناطق واسعة في دير الزور منتصف عام 2014، استمر باستهداف أحياء حاصرها ومنع دخول الغذاء والدواء إليها.
وسبّب تعاقب القوى العسكرية في المدينة وانتهاكاتها، من منتصف عام 2012 ولغاية عام 2017، بخلو آلاف المنازل من أصحابها، واستيلاء عناصر أمنيين وميليشيات أجنبية على عدد منها تحت ذريعة عمل أصحابها في صفوف المعارضة.
وبدأ استغلال فراغ آلاف المنازل نتيجة الحرب والملاحقات الأمنية منذ عام 2017، مع استعادة النظام وحلفائه السيطرة على مساحات واسعة من دير الزور، وتوسعت هذه العمليات لتشمل مدينتي الميادين والبوكمال وأريافهما.
وكانت مناطق من ريف دير الزور الشرقي شهدت حالة من النزوح باتجاه الريف الغربي جراء تزايد نشاط خلايا تنظيم “الدولة” شرقي المحافظة، حيث يتقاسم النظام والميليشيات الإيرانية مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المدعومة أمريكيًا، السيطرة العسكرية على المحافظة الشرقية، ويعتبر نهر “الفرات” الخط الفاصل بين مناطق السيطرة جغرافيًا.
أبرز الميليشيات التابعة لإيران في محافظة دير الزور: “الحرس الثوري الإيراني”، الميليشيات الشيعية العراقية (كتائب حزب الله، وكتائب بدر، وحركة النجباء)، “حزب الله” اللبناني، “لواء فاطميون” الأفغاني، “لواء زينبيون” الباكستاني، “قوات الدفاع الوطني” (لواء الباقر، وجيش المهدي، ولواء الإمام المهدي).
إما البيع أو الحجز
اضطر سكان من مناطق ريفي دير الزور والرقة إلى بيع منازلهم أو أراضيهم لعناصر ميليشيات إيرانية أو جهات مرتبطة بها، وفق ما أشار إليه مراسل عنب بلدي في الرقة.
وتقف وراء ذلك أسباب عدة، منها تردي الأوضاع المعيشية ما يجبر الأهالي على بيع بعض عقاراتهم لتأمين مبالغ تعينهم على التعايش مع الظروف، أو الرغبة بالهجرة خارج البلاد أو النزوح نحو مناطق سيطرة “قسد” في دير الزور أو الرقة.
أما في الحالات التي لم يبع الأهالي أملاكهم عند مغادرتهم المنطقة، فحجزت عليها الميليشيات الإيرانية بحجة تركها.
واعتبر المراسل أن هذه المسألة لا تتعلق ببعد سياسي فقط، بل تندرج أيضًا ضمن نطاق تدعيم النفوذ الإيراني الشيعي، وتثبيت التغيير الديموغرافي الذي تمارسه تلك الميليشيات في دير الزور والرقة.
وتتركز حركة شراء الأملاك العقارية من قبل الميليشيات في مدينة معدان بريف الرقة الجنوبي الشرقي، والبوكمال بريف دير الزور الشرقي، بحسب المراسل.
إلى جانب اتباع إيران نهج استملاك العقارات وسياسة التغيير الديموغرافي، تحاول التأثير على المنطقة من خلال الغزو الفكري عبر نشاطات “المركز الثقافي الإيراني”، إضافة إلى الغزو العسكري المتمثل بدفع الشباب إلى الانتساب لقواتها، مستغلة تدهور الأوضاع المعيشية وانعدام فرص العمل.
تحويل المنازل إلى مقرات عسكرية
مدير منظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، أكد أن عمليات الاستيلاء من قبل الميليشيات التابعة لإيران في دير الزور ليست جديدة، لافتًا إلى أنها تركزت في عدة مناطق.
ففي مدينة الميادين، تمت السيطرة على منازل مدنيين منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، وصُنفت بعض المناطق عسكرية بسبب تمركز الميليشيات فيها.
كما يشكّل حي التمو جنوب غربي مدينة الميادين مركز تجمع لعدد من عوائل مقاتلي الميليشيات، ولا يستطيع أغلب الأهالي العودة إلى منازلهم منذ سيطرة النظام عليه، إذ تتمتع القوات الإيرانية فيه بنفوذ كبير، وهو منطقة عسكرية يمنع الاقتراب منها.
كما توجد الميليشيات الإيرانية بكثرة في مدينة البوكمال، التي شهدت حركة نزوح كبيرة ولم يعد إليها سوى عدد قليل من أهاليها، وتعرض العديد من منازلها للاستيلاء.
قد يكون أبرز هدف حققته إيران في دير الزور هو سيطرتها على مدينة البوكمال ومعبرها الحدودي مع العراق، وتتلخص أهمية البوكمال بالنسبة لإيران في كونها عقدة مواصلات برية مهمة تصل منها إلى سوريا ثم لبنان، حيث تُعتبر امتدادًا لصحراء الأنبار العراقية، كما ترتبط بصحراء السويداء ودرعا وتدمر ودير الزور، ما يكسب المدينة أهمية اقتصادية إضافية لإيران.
وفي بلدة التبني بريف ديرالزور الغربي، أنشأت إيران مقرات رئيسة لها تضم عناصر من ميليشياتها، كما سيطرت على منازل بعض الأشخاص المعارضين للنظام والمسافرين.
وبيّن الحمد أن بعض الأشخاص تمكنوا من استعادة أملاكهم المصادرة عند عودتهم إليها وإثبات ملكيتهم.
وثقت شبكة “عين الفرات” المحلية أماكن وجود أبرز المقرات الإيرانية التي كانت عبارة عن بيوت وأراضٍ تعود ملكيتها لسوريين في مدن دير الزور البوكمال والميادين.
وأشارت إلى أنه بعد سيطرة النظام السوري والميليشيات الإيرانية على محافظة دير الزور، عمدت الأخيرة إلى اتخاذ مقرات لها من خلال الاستيلاء على المنازل التي تناسبها من حيث الموقع والبناء، كما منعت أصحابها من العودة إليها، وقد فرضت سيطرتها في بعض الأماكن على أحياء بالكامل.
نقل ملكية المنازل إلى عناصر مجنسين
المحامي السوري المقيم في فرنسا زيد العظم، أشار إلى استيلاء الميليشيات التابعة لإيران على 73 منزلًا في شهر واحد بمناطق سيطرتها في مدينتي البوكمال والميادين، وذلك بعد نزع ملكيتها من أصحابها السوريين المقيمين في أوروبا والخليج العربي، ونقلها إلى عناصرها.
ونقل العظم عن مصادر محلية قولها، إن “الحرس الثوري الإيراني” حوّل قسمًا من هذه المنازل إلى مقرات عسكرية، بينما أقامت عائلات عناصره وقياداته في بعضها الآخر، للاحتماء من الضربات الجوية التي تنفذها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضدها.
ولفتت المصادر إلى أن لواء “فاطميون” طالب عائلات تقطن في تلك المنازل بإبراز عقد إيجار نظامي بينهم وبين المالك أو توكيل بالتصرف في هذه الأملاك خلال مهلة لا تتجاوز الـ15 يومًا، إلا أن العائلات لم تتمكن من تأمين ذلك لتعذر عودة أصحاب المنازل الأصليين وإبرام العقود اللازمة.
وبحسب المصادر، فإن تلك الميليشيات نقلت ملكية المنازل المصادرة إلى أشخاص موالين لها أو من عناصرها المحليين في البادية، ثم إلى عناصر أجانب حاصلين على الجنسية السورية بقرارات من النظام السوري.
جهات توثق عمليات الاستيلاء
العظم أوضح لعنب بلدي أن مجموعة من السوريين الموجودين في المنطقة الشرقية يقومون وبإشراف من بعض الجمعيات في أوروبا، بتوثيق الانتهاكات التي تقوم بها الأذرع الإيرانية في التملك غير المشروع للأراضي والعقارات.
وبيّن أن عمليات المصادرة أو فبركة عقود البيع مستمرة، مشيرًا إلى وجود “داتا” هائلة من المعلومات حولها.
وعن الآليات التي تلجأ إليها الأذرع الإيرانية في سبيل تملّك المنازل، لفت إلى أنها تتبع لتحقيق مبتغاها أساليب الترغيب في بعض الأحيان، أو الترهيب والتدليس في أحيان أخرى.
“فهي تعرض بداية الأموال لشراء هذه العقارات، ومن ثم تلجأ إلى الضغط والتضييق والتخويف لإجبار أصحابها على بيعها، وفي بعض الأحيان تقوم بفبركة عقود بيع وهمية لنقل الملكية إلى أشخاص حصلوا على الجنسية السورية هم في الأصل إيرانيون وأفغان وباكستانيون”، بحسب العظم.
وقد استطاعت الأذرع الإيرانية من خلال امتلاكها المال واستغلال حاجة الناس إليه بسبب الفقر الشديد الذي تعيشه البلاد، تجنيد عدد كبير من أبناء المنطقة، ليقوموا بتزويدها بمعلومات مفصّلة عن المُلّاك الحقيقيين لتلك الأراضي والعقارات.
وأشار العظم إلى أن معظم المنازل التي تم الحصول عليها عن طريق التدليس بالعقود الصورية، كانت فارغة وتم استغلال مسألة خلوها من مالكيها ووجودهم خارج البلاد.
كيفية حفظ الحقوق
ينصح المحامي أصحاب العقارات الذين خسروا أملاكهم بالاحتفاظ بجميع الوثائق والأوراق والفواتير التي تثبت ملكيتهم، لأن أي وثيقة حتى ولو كانت بسيطة يمكن أن تكون قرينة إثبات على صحة الملكية، وأن العقود المناقضة لتلك الوثائق غير شرعية ومعدومة أصلًا.
كما تسهم أتمتة السجل العقاري في حماية حق الملكية الذي هو حق مقدس تصونه كل الدساتير في العالم.
وأكد العظم أهمية الدور المنوط بوجود قضاء عادل خلال مرحلة العدالة الانتقالية المنشودة في سوريا، عقب إنهاء فترة النزاع الحالي، في حماية وصون حقوق جميع السوريين.
بحسب دراسة لمركز “جسور للدراسات” في كانون الثاني الماضي، تمتلك إيران 131 موقعًا عسكريًا بين قاعدة ونقطة وجود في عشر محافظات، 38 منها في درعا، و27 في دمشق وريفها، و15 في حلب، و13 في دير الزور، و12 في حمص، وستة في حماة، وستة في اللاذقية، وخمسة في السويداء، وخمسة في القنيطرة، وأربعة في إدلب.
المصدر عنب بلدي