أرسل المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي، بعض الرسائل المتضاربة حول نوايا بلاده فيما يتعلق ببرنامجها النووي، ففي أوائل فبراير/ شباط، تعهد بأنه بمجرد أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية تماما، ستعود إيران إلى الامتثال الكامل للاتفاق النووي لعام 2015.
لكن بعد أسبوعين فقط، أعلن خامنئي أن إيران قد تخصب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 في المائة إذا احتاجت إليه، علاوة على ذلك، قدم دعمه لقانون جديد في البرلمان الإيراني يضع حدا لعمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمنشآت النووية في البلاد.
ويعكس موقف إيران المتشدد الحالة المزاجية لدولة لم تعد ترى الغرب كشريك اقتصادي محتمل، وأدى إعادة فرض العقوبات الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب إلى فقدان مصداقية الدبلوماسية لدى العديد من الإيرانيين تشويه سمعة العديد من الإيرانيين العاديين بفائدة الدبلوماسية، حتى لو أدت إلى إعادة توزيع الثروة لصالح التيار المتشدد.
وربما شددت واشنطن من الخناق على الاقتصاد الإيراني على أمل أن تضعف من قبضة النخبة السياسية، إلا أن ما حدث هو العكس وأدى لتعزيز القوة الاقتصادية والسياسية للمتشددين في إيران ورفضهم للتنازل.
ربما تكون واشنطن قد ضيقت الخناق على الاقتصاد الإيراني على أمل إضعاف النخبة السياسية فيها، ولكن بدلا من ذلك، أدت حملة "الضغط الأقصى" التي شنها ترامب إلى تعزيز القوة الاقتصادية والسياسية للمتشددين في إيران.
خلال العامين الأولين من اتباع سياسة الضغط القصوى، وحتى قبل ظهور فيروس كورونا الجديد، أدت العقوبات الأمريكية إلى انكماش الاقتصاد الإيراني بنحو 12 في المائة، وانخفض نصيب الفرد من الدخل القومي بنسبة 14 في المائة، كما انخفضت صادرات البلاد النفطية بنسبة 80 في المائة.
ووفقا لدراسة أجراها المركز الإحصائي الإيراني، ارتفع معدل الفقر المطلق في البلاد بنسبة 11% بين آذار/ مارس 2018 ومارس 2020، في حين انخفض متوسط مستوى المعيشة بنسبة 13% على الصعيد الوطني، وفقدت العملة الوطنية ما يقارب ربع قيمتها، مما أدى إلى انخفاض قيمة الحد الأدنى للأجور من 260 دولارا إلى ما يقرب من 70 دولارا في الشهر.
كما غيرت حملة الضغط القصوى التي شنها ترامب بنية الطبقة الاجتماعية في البلاد، عن طريق نقل جزء كبير من الطبقة الوسطى إلى مستوى الفقر، وكانت النتيجة تشويه فكرة التعامل مع الغرب لمواجهة الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
وكانت عقوبات ترامب مدمرة تقريبا مرتين مقارنة بعقوبات سلفه، الرئيس باراك أوباما، ولكن نظرا لأن عقوبات ترامب جاءت دون أي هدف واضح، فإنها لم تنتج ضغطا سياسيا محليا للتسوية أو التفاوض مع الولايات المتحدة.
وخلال عقوبات أوباما، روّج المرشح الرئاسي حسن روحاني لفكرة أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لإيران مرتبطة بعزلة البلاد، وقال إن الدبلوماسية والمشاركة هما المفتاح للتغلب على هذه المشاكل، وفاز روحاني بالرئاسة في عام 2013 بناء على هذه الحجة، التي لا تبدو معقولة في هذه الأيام.
وأوفى روحاني بوعده لبعض أجزاء من الناخبين الإيرانيين، فخلال فترة الاتفاقية النووية لعام 2015 ارتفع معدل النمو الاقتصادي لإيران بنسبة 17%، مما أدى إلى خلق 3.5 مليون وظيفة، معظمها للشركات الصغيرة في قطاع الخدمات في المدن الكبيرة، وانخفض معدل الفقر في طهران والمدن الكبرى إلى أقل من 20 في المائة بعد تنفيذ الاتفاق.
واستنادا إلى دراسة مسحية لنفقات الأسر المعيشية، يمكن اعتبار 45 في المائة من سكان إيران في عام 2017 من الطبقة المتوسطة اقتصاديا، أي أنهم ليسوا فقراء أو معرضين لخطر الفقر.
لكن إدارة روحاني أخفقت في توزيع فوائد الاتفاق النووي بالتساوي بين مختلف شرائح المجتمع، وظل الفقر والبطالة على نفس المستوى كما كان من قبل في المدن والقرى الصغيرة، كما لم يؤد رفع العقوبات الأمريكية بين عامي 2015 و2018 إلى توفير وظائف جديدة في تلك المدن والقرى، وظل معدل الفقر في المناطق الريفية أعلى من 40 في المائة كما كان عام 2013، دون تغيير ملحوظ بعد الاتفاق النووي، وأدى تدفق العقوبات الجديدة عام 2018 إلى زيادة أعداد الفقراء الإيرانيين بشكل كبير، من 22 مليونا إلى 32 مليونا، وقلص حجم الطبقة المتوسطة في إيران من 45 بالمائة إلى 30 بالمائة بحلول مارس 2020، ومن المتوقع أن يرتفع معدل الفقر إلى 45 –48٪ في عام 2021.
وأدى التوزيع غير المتكافئ لفوائد الاتفاق النووي لعام 2015، إلى جانب تنامي الفقر بعد فرض عقوبات جديدة، إلى إبعاد الطبقات الدنيا من المجتمع الإيراني عن أي فكرة مفادها أن الدبلوماسية والمشاركة ستعالج آلامها الاقتصادية.
ونجحت إدارة ترامب في تغيير التركيبة الطبقية للمجتمع الإيراني، إلا أنه لم تفلح بتحقيق نتائج مفيدة للمصالح الأمريكية، وبدلا من ذلك، سرّعت العقوبات الجديدة عسكرة الاقتصاد الإيراني، وباتت الدولة تعاني من عجز كبير في الميزانية العامة، وتراكمت الديون على المقاولين من القطاع الخاص، مما أدى إلى إفلاس العديد منهم.
وشكلت الشركات الخاصة ما يقارب 25 بالمئة من فرص العمل في إيران في العقود الأخيرة، وكانت أحد المصادر الرئيسية لتمويل السياسيين ذوي العقلية الإصلاحية على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية.
والآن معظم كبار المقاولين من القطاع الخاص قد أفلسوا، ليحل محلهم شركة "خاتم الأنبياء" للإنشاءات ومعهد "جهاد النصر"، التابعتان للحرس الثوري الإيراني، وخلال العامين الماضيين، أعلنت 13 شركة من أصل 14 شركة خاصة لإنشاء الطرق إفلاسها، لكن شركة "خاتم الأنبياء" للإنشاءات أكدت أن عدد مشاريع بناء الطرق قد تضاعف منذ عام 2019، وانتهز الحرس الثوري الإيراني الفرصة ليجعل من نفسه عنصرا لا غنى عنه اجتماعيا واقتصاديا.
وخلال انزلاق إيران نحو مرحلة المصاعب المعيشية، قامت الجماعات الخيرية الطلابية التابعة للحرس الثوري الإيراني بتوسيع قاعدتها الاجتماعية من خلال توفير الإغاثة والدعم المجتمعي في المناطق الفقيرة، كما قام الحرس الثوري الإيراني بقمع النشطاء المستقلين ومنظمات المجتمع المدني، واستغل الحرس الثوري ذلك لتقويض مصداقية إدارة روحاني، مدعيا، أنه بدلا من معالجة الفقر، كان روحاني يهدر الوقت والطاقة في محادثات نووية غير مجدية.
وتركت النخب السياسية الإيرانية، وخاصة الإصلاحيين، لتواجه أسئلة صعبة من الجمهور الذي أصبح يرى العقوبات التي لا تنتهي جزءا من سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران.
ولم يقم المتشددون الإيرانيون بتعزيز قوتهم الاقتصادية فحسب، بل نجحوا في إلقاء الشك على حكمة الدبلوماسية كوسيلة لتحسين حياة الناس العاديين، وتجادل الفصائل السياسية المتشددة، من خلال وسائل الإعلام الرئيسية التي تسيطر عليها، بأن "المقاومة"، وليس الدبلوماسية، ستسمح لإيران بفرض صفقة أفضل ستضطر فيها الولايات المتحدة، أخيرا إلى الاعتراف بحقوق إيران كقوة ناشئة في الشرق الأوسط.
وأولئك الذين يعارضون رفع العقوبات في الولايات المتحدة، يعززون عن غير قصد الرواية الإيرانية المتشددة، بأن نهج ترامب كان القاعدة وليس الاستثناء، فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية، ووفقا لذلك ستظل العقوبات الاقتصادية جزءا لا يتجزأ من سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران بغض النظر عن من هو الرئيس، وما إذا كانت طهران ستتعاون مع واشنطن أم لا.
ولكبح برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، ستسعى الولايات المتحدة إلى فرض المزيد من العقوبات، ويلوح معارضو الدبلوماسية في طهران بهذا الاحتمال لإثبات أن الولايات المتحدة لا تفي بالتزاماتها، بل إنها تلعب لعبة لا نهاية لها، والحقيقة هي أن الظروف تغيرت منذ عام 2015 لكلا البلدين، وجعلت سياسة ترامب المدمرة من التسوية أقل جاذبية وأكثر تكلفة بالنسبة لإيران.
إيران إنسايدر نقلا عن مجلة فورين أفيرز - (ترجمة فتحية عبدالله)