في الوقت الذي عزز العراق انفتاحه خليجيا، وسعى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى إظهار بغداد بصورة الند لطهران التي تشهد علاقاتها توترا متزايدا مع دول خليجية، أعلنت واشنطن تقليص قواتها في العراق الذي يعاني من تسلط مليشيات موالية لإيران عليه.
إعلان الجيش الأمريكي، الأربعاء (9 سبتمبر 2020)، لم يكن فجائيا؛ فالانسحاب سبق أن ناقشه الجانبان العراقي والأمريكي، فضلا عن أنه كان جزءا من وعود حملة دونالد ترامب الانتخابية في عام 2016 حيث دعا إلى إنهاء "حروب أمريكا التي لا تنتهي".
يضاف إلى هذا أن هناك رغبة قوية لدى جزء كبير من القوى السياسية العراقية، خاصة المؤثرة، في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي بالبلاد.
ولدى الولايات المتحدة حاليا نحو 5200 جندي في العراق نشرتهم لقتال تنظيم "داعش".
وبحسب وكالة "رويترز" قال مسؤولون من تحالف تقوده الولايات المتحدة إن القوات المسلحة العراقية قادرة بدرجة كبيرة الآن على التعامل بنفسها مع فلول التنظيم.
الجنرال فرانك ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، قال أثناء زيارة للعراق: "نواصل توسعة برامج دعم قدرات شريكنا لتمكين القوات العراقية بما يسمح لنا بتقليص وجودنا في العراق".
وأكدت الولايات المتحدة والعراق، في يونيو الماضي، التزامهما بخفض القوات الأمريكية بالعراق في الأشهر المقبلة، مع عدم اعتزام واشنطن الإبقاء على قواعد دائمة أو وجود عسكري دائم.
وأثناء اجتماعه مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الشهر الماضي، أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعده مجددا بسحب القوات الأمريكية من العراق.
اجتماع ترامب مع رئيس الوزراء العراقي جاء في وقت تشهد فيه التوترات بين الولايات المتحدة وإيران تصعيدا جديدا بعد أن قالت واشنطن إنها ستسعى لدى الأمم المتحدة لإعادة فرض جميع العقوبات الأمريكية التي كانت تفرضها على طهران.
الانسحاب متوقع
الانسحاب الأمريكي من العراق لن يغير من القوة الأمريكية سواء في العراق أو المنطقة، بحسب ما يقول خبراء في الشأن العسكري؛ حيث إن الانتشار العسكري الأمريكي يتمدد في العديد من الدول.
هذا ما يذهب إليه الخبير في الشأن العسكري العراقي، العميد الركن المتقاعد حاتم الفلاحي، الذي تحدث لـ"الخليج أونلاين".
ووفق الفلاحي، فإن الاستراتيجية الأمريكية قد حددت من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة بالبقاء في العراق، مستشهدا بتصريح سابق للجنرال كينيث ف. ماكينزي، القائد العام للقيادة المركزية الأمريكية، الذي أكد أن قواتهم لن تنسحب من العراق ولكن سيكون هناك تخفيض للقوات العسكرية.
الفلاحي ذكر أيضا أن القيادة العسكرية الأمريكية قالت إن هذه القوات التي ستبقى بالعراق ستعمل على مواجهة أي تصرف يمكن أن تقوم به إيران، ومراقبتها في الفترة المقبلة.
وعليه؛ يجد أن "قرار الانسحاب يبعث برسائل متعددة، فقد تفهم إيران والمليشيات التابعة لها بأن هذا الانسحاب يمكن أن يؤدي الى زيادة النفوذ الإيراني بالعراق بصورة أكبر مما هي عليه الآن، أو حتى في المنطقة".
وهذا ما يعتبره الفلاحي خطأ من قبل إيران والمليشيات في حال ذهبت بتفكيرها في هذا الاتجاه؛ وعليه يقول: "يمكن أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى زيادة النفوذ الإيراني، علما أن النفوذ الإيراني هو متمكن وقوي وموجود بشكل كبير جدا، وهذا تعرفه القوات الأمريكية".
قوة أمريكية بالخليج
وأكد أن واشنطن تعلم جيدا بأن "النفوذ الإيراني السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي هو موجود بقوة في العراق"، لكنه يقول إن "الجيوش اليوم لا تقاس بالكثرة العددية في المناطق إنما تقاس بقابلية الحركة بالقوة النارية وبقابلية السيطرة".
وجود القوات الأمريكية خلال الفترة القادمة بالعراق يتركز على تقديم الاستشارة إلى القوات العراقية، بالإضافة إلى المعلومات الاستخبارية والدعم الجوي وبعض الدعم اللوجستي لتدريب هذه القوات، ومن ثم هي لا تحتاج إلى قوات كبيرة لتنفيذ هذه المهام، وفق الخبير العسكري العراقي.
وقال إن دور هذه القوات أصبح استشاريا أكثر مما هو قتالي؛ "لذلك هذا الانسحاب لا يؤثر على استراتيجية الولايات المتحدة لكون القوات الأمريكية تنتشر في المنطقة بشكل كبير جدا.
وأضاف "القوات الأمريكية توجد في الكويت وفي عمان والبحرين والسعودية وقطر والإمارات وفي أفغانستان، بالإضافة إلى وجودها في تركيا وكردستان العراق؛ يمكن أن تؤدي هذه القوات الموجودة في هذه البلدان ما يمكن أن تنفذه القوات الأمريكية سواء كانت في العراق أو إيران".
تنفيذ استراتيجية
وكما يبدو؛ فإن قرار الانسحاب الأمريكي من العراق يدخل ضمن استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط، القاضية بالانسحاب العسكري من الشرق الأوسط وأوروبا؛ حيث إن أروقة صنع القرار في واشنطن تعتقد أن الولايات المتحدة تورطت كثيرا في الشأن الشرق أوسطي، بحسب ما يقول المحلل السياسي العراق، الناصر دريد، لـ "الخليج أونلاين".
ويقول الناصر دريد إن ما زاد من سهولة اتخاذ قرار انسحاب القوات الأمريكية هو النفط؛ مشيرا إلى أن "أمريكا أصبحت مكتفية نفطيا، وانتهى ما يسمى بعهد ائتمان الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط منذ مدة ليست بالقصيرة؛ لذلك ترى الولايات المتحدة أن انشغالها بهذه المنطقة أصبح زائدا عن الحد".
ويضيف المحلل السياسي العراقي أنه كان يتوقع أن يؤجل دونالد ترامب خطة الانسحاب حتى فوزه بولاية ثانية؛ لكي يكون بموقع أقوى ويستطيع فرض إرادته على البنتاغون بشكل أوضح. لكنه يرى بأن ترامب "يريد أن يحقق إنجازات سياسية تكسبه معركة الانتخابات القادمة"، مفيدا أن الانسحاب الأمريكي من العراق يعطي شعبية لترامب.
معركة إيران
لكن في المقابل؛ لا يخفى أن لإيران وجودا قويا داخل العراق وفي عدة دول بالمنطقة، وهذا ما تدركه جيدا الولايات المتحدة، لكن المحلل السياسي العراقي يقول إن إيران تدرك أن معركتها مع الولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط خصوصا، في عهد ترامب، عسكرية.
وبين أن طهران "تتجنب أي صدام عسكري مع الولايات المتحدة؛ لعلمها بوجود نية أمريكية بالانسحاب؛ لذلك لا تريد أن تعطي مبررا للاصطدام الأمريكي معها"، مستشهدا بمقتل الجنرال قاسم سليماني حيث كان رد الإيرانيين باهتا.
وكانت مواقع للقوات الأمريكية تعرضت لقصف بصواريخ في الأشهر الستة الأخيرة، لكن الناصر دريد يصفها بأنها "للاستهلاك الإعلامي والسياسي؛ فهي محسوبة بدقة بحيث لا تؤثر على القوات الأمريكية".
قلق خليجي
لكن القرار الأمريكي الجديد بالانسحاب من العراق لا يتعلق بالبلد ذاته، بل تمتد آثاره إلى دول الجوار الخليجي، إذ يرى المحلل السياسي العراقي أن هذا الانسحاب من شأنه أن يثير القلق لدى دول خليجية.
وأشار إلى أن "الإدارة السعودية حاولت المستحيل لكي تجذب القوات الأمريكية في الشرق الأوسط ودعم نفوذها ضد إيران"، مستشهداً بالحفاوة التي استقبل بها ترامب في زيارته للسعودية عقب توليه الرئاسة.
لكن رغم هذا فإن إدارة ترامب -وفق دريد- نفذت انسحابا غير آبهة برضا أو عدم رضا حلفائها في المنطقة الذين يفكرون بقلق وعمق تجاه التحولات الأمنية، وكيف يمكن الاستعاضة عن الانسحاب الأمريكي، وكيف يمكن ممارسة دور فعال أكثر في حال تغيير الإدارة الأمريكية الحالية.
المصدر: الخليج أونلاين