تعدّ الحرب الإسرائيلية ضد إيران جزءا من استراتيجيتها لمواجهة التواجد الإيراني في سوريا ولبنان، وهي كما يبدو مفتوحة تنظمها استراتيجية "الحرب بين الحروب" والتي تختصرها إسرائيل باسم (WBW) حيث تشهد تحولات مختلفة من وقت لآخر، ولا أدل على تلك التحولات التي رافقت تطورات الصراع في سوريا من إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت، أن "إسرائيل" تبحث الانتقال إلى استراتيجية "استهداف رأس الأخطبوط" بدلا من خوض حروب جديدة في غزة ولبنان، قائلا: "لا أتحدث بالضرورة عن حرب شاملة بيننا وإيران غدا، ويشبه ذلك بشكل أكبر الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وهي ستدور بين القوتين الإقليميتين "إسرائيل وإيران".
الحرب بين الحروب
"إسرائيل" تتبنى في مواجهة إيران استراتيجية "الحرب بين الحروب" التي يغلب عليها مبدأ معارضتها الكلاسيكي للتواجد العسكري الإيراني في سوريا ولبنان، والحؤول دون بناء إيران ترسانة تهدد "إسرائيل" من خلال وكلائها في جنوب لبنان وسوريا، وإعاقة وصول الصواريخ المتطورة إلى "حزب الله" اللبناني، فضلا عن إعاقة تطوير قدرات إيران النووية والصواريخ بعيدة المدى.
وتقف هذه الاستراتيجية (WBW) على النقيض من استراتيجية "استهداف رأس الأخطبوط" التي يعتمد نجاحها على فاعلية كل أدوات ووظائف القوة العسكرية.
عمليا، باشرت "إسرائيل" هذه الاستراتيجية في سوريا عقب التدخل العسكري الإيراني في سوريا، والتي نفذها الطيران الإسرائيلي على القواعد العسكرية الإيرانية، حيث كثفت عملياتها في مناطق تمركز الميليشيات الإيرانية وكانت باكورة هذه العمليات، الهجمات التي شنتها طائرات إسرائيلية في 30 كانون الثاني/يناير 2013، استهدفت قافلة عسكرية كانت في طريقها إلى "حزب الله"، فيما كان أعنفها استهداف معامل الدفاع في السفيرة جنوب حلب بواسطة صواريخ دقيقة، عطلت خط إنتاج الصواريخ الإيرانية، وأخرها القصف الإسرائيلي المكثف قبل أيام الذي استهدف عدة قواعد عسكرية إيرانية في مناطق متعددة من سوريا.
ومع تعاظم التخوفات في إيران من التهديدات الإسرائيلية في ضوء ارتفاع أصوات قيادية إسرائيلية تطالب بإخراج إيران من سوريا حتى لو تطلب الأمر عملية عسكرية، إن فشل قصف الطيران والضغوطات الاقتصادية والسياسية.
بالمقابل، فإن إيران تراقب الإشارات الميدانية والسياسية لتعزيز خيار "إسرائيل" في تحول استراتيجيتها من "الحرب بين الحروب" إلى استهداف "رأس الأخطبوط" أو تفعيل "خطة تنوفا".
على هذه الخلفية سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن "إسرائيل" جادة في "حرب مفتوحة" ضد إيران، وبالأخص تفعيل خطة "تنوفا" أي المواجهة البرية، حيث تبدو الفكرة خالية من المنطق، فالحقيقة "إسرائيل وإيران" ليس لديهما صراع جوهري حول قضية ما، حيث أنه لم يحصل على مرّ التاريخ المعاصر صدام مباشر بينهما غير حربهما الإعلامية التي لم تتجاوز حدود الشعارات، وخلف هذه "الجلبة الإعلامية" بين إيران و"إسرائيل" ينطوي سجل من تاريخ التعاون والتآمر المشترك، إذ تجسّد هذا التعاون في أجلى صوره في عملية "أوبرا" العسكرية حين استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي بضربة جوية مفاجئة مفاعل تموز النووي العراقي في العام 1981، والصورة الأخرى عام 1986 واشتهرت بـ"فضيحة إيران غيت" وتعرف أيضا باسم "إيران كونترا" وينسب اسمها إلى صفقة سرية حيث باعت إدارة الرئيس رونالد ريغان خلال فترة ولايته الثانية إيران أسلحة بوساطة إسرائيلية، على الرغم من قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران وتصنيف الإدارة الأميركية لها "راعية للإرهاب"، فضلاً عن العداء العلني بينهما، وتم الاتفاق حينئذ بين جورج بوش الأب الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس ريغان، ورئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في العاصمة الفرنسية باريس، بحضور آري بن ميناشيا مندوب المخابرات الإسرائيلية الخارجية "موساد".
ومن الأسرار التي كشف الإسرائيليون خباياها لاحقاً حول عملية "أوبرا"، أن إسرائيل ما كانت لتنجح لولا مساندة إيران وتعاونها معها عدا عن أن الضربات العسكرية التي تشنها تل أبيب على أهداف تابعة لإيران في سوريا، لم تمنع طهران من التموضع عسكريا في الجنوب السوري أو مناطق أخرى، وكذلك يربط "إسرائيل" بإيران تاريخ من التعاون المشترك في الصراع على المنطقة منذ العام 1948م، وازداد نشاطهما العسكري في حرب الخليج الأولى "1980-1988" مع فضائح متعددة كشفت عن قِدم التعاون الأمني بينهما وفق اتفاقيات سرية أبرمت في عهد المرشد الأول (الخميني) عبر ضباط ارتباط من الجانبين يضطلعون بتنسيق التعاون في هذا المجال، من خلال وجودهم في الدول الأوربية، فيما يواصل وزير الدفاع نفتالي بينت تهديد الإيرانيين دون تحقيق أي شيء للحد من تمركز الحرس الثوري (الإيراني) في سوريا، ويتبع الإيرانيون أساليب متنوعة لإبطاء أو تعطيل أو التمويه حيال الهجمات الإسرائيلية.
ضربات جوية
ويمضي "الإسرائيليون" وراء خيار مواصلة تكثيف العمليات العسكرية الجوية ضد بناء ترسانة إيرانية على الأراضي السورية، وبالأخص قطع التواصل على قطاع جبهة القتال بين "الجولان المحتل" و"الجنوب اللبناني" بحيث لا تشكل إيران تهديدا حقيقيا لـ "إسرائيل".
ويأتي هذا الصراع في سياق التنافس الإقليمي باعتبار "إسرائيل" تشكل عقبة رئيسية أمام طموحات إيران في السيطرة على المنطقة العربية، من هنا لا يمكن لـ"إسرائيل" تطوير استراتيجيتها القائمة على مبدأ "الحرب بين الحروب" إلى تفعيل استراتيجية "رأس الأخطبوط" أو "قطع رأس الأفعى"، ذلك أن إيران لا تشكل خطرا على "إسرائيل"، التي وضعت معايير لتوصيف العدو الحقيقي، وفق عقيدة رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، مناحيم بيغين مؤداها "إذا كان هناك من يدعو إلى تدمير "إسرائيل" فإننا لن نسمح له بامتلاك أسلحة تدمير شامل.
وقد مثلت السنوات الأخيرة من الحرب السورية نقطة تحول في الدعم الإيراني لـ"حزب الله" اللبناني من خلال بناء ترسانة عسكرية غير مسبوقة تجسدت بصفقة الصواريخ المتطورة المضادة للطائرات والسفن والدبابات اشتراها نظام الأسد من روسيا ومولتها إيران واستلمها "حزب الله" اللبناني، وفي الآونة الأخيرة شرعت "إسرائيل" في زيادة هجماتها، التي شنتها طائراتها الحربية، كأحد أبرز ملامح التحول في الحرب الإسرائيلية على إيران في سوريا، والتطبيق العملي لاستراتيجية "الحرب بين الحروب"، حيث تضاعف عدد الهجمات المنفذة، فقد شهد يوم 24يونيو/حزيران الجاري استهداف عدة مواقع عسكرية إيرانية في ريف حماة الشرقي، وهي: "معمل البصل في السلمية، والمركز الثقافي في الصبورة، ومعمل الأعلاف في عقارب، وموقع عسكري في أثريا"، كما طال القصف مواقع عسكرية بالقرب من صلخد في السويداء، وكباجب جنوب دير الزور.
وفي سياق ما تدعو إليه استراتيجية "إسرائيل" (الحرب بين الحروب) من تقاسم أعباء مواجهة إيران بين الشركاء الإقليميين والدوليين، يبدو أن الروس الذين يدعمون استمرار حكم الأسد يدركون ما تفعله إيران التي تنمو قوتها العسكرية بشكل أقوى، والواقع إن روسيا مع عميلها الأسد عاجزة عن مجابهة إيران أو عرقلة مشروعها بعدما تحولت مناطق نفوذ إيران إلى مستوطنات تحتوي ترسانة عسكرية كبيرة.
وحتى القوات الأمريكية المتمركزة حاليًا في معبر التنف على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق والقريبة من الممر البري الإيراني، تختصر مهامها مع "فصيل المغاوير" على الدفاع عن نفسها، فيما يستمر تدفق الميليشيات الإيرانية من الممر على مرأى الجميع، مما يشير إلى افتقار واشنطن لاستراتيجية واضحة في سوريا بشكل عام.
من المهم القول إن استراتيجية "الحرب بين الحروب"، التي تشنها "إسرائيل" على إيران وميليشياتها في سوريا ترتفع وتيرتها تارة وتنخفض تارة أخرى، لكن هذه الميليشيات لا تزال كيانا شبحيا، وبالتالي فإن الحرب عليها تبدو شبحية بالمثل، وليست بذات الصخب والضجيج الذي يرافق الحرب على تنظيم "داعش" أو "القاعدة".
وبين هذا وذاك يمكن القول، إنه رغم عنف الاستراتيجية الإسرائيلية المتبعة في هذه الحرب والتحولات التي حفل بها الصراع الدولي في سوريا، إلا أنها لا تشير إلى الاتجاه الصحيح في التعامل مع التهديد الإيراني للمنطقة والعالم؛ فادعاء "إيران" الانسحاب الجزئي من سوريا لا يعدو أن يكون ظاهريا وتكتيكيا، وقد تحدُث تحولات ما لتعاود الميليشيات الإيرانية نشاطها بقوة كما يجري في جنوب سوريا وريف دير الزور الشرقي وجنوب حلب، وذلك ما يؤكد على ضرورة إعادة النظر في مواجهة إيران وحصر مواجهتها في إطار مفهوم " قطع رأس الأفعى"، إلا أن تكون مسألة مواجهة إيران وسيلة من وسائل النفوذ والهيمنة الإقليمية والدولية، وبالتالي فلن تشهد استراتيجية "الحرب بين الحروب" نهاية قريبة، وهو ما يتطابق مع المصلحة الإقليمية والدولية لهذه الحرب المفتوحة.
المصدر: بلدي نيوز