ما بعد مقتل سلـيمـاني.. استراتيجية أمريكية جديدة لمواجهة إيـران في المنطقة العربية

مقدمة

اعتمدت إيران في مشروعها التوسعي لتوطيد نفوذها وهيمنتها في المنطقة على علاقاتها مع ميليشيات وأحزاب في كل من العراق ولبنان واليمن وسوريا, وذلك لما تتمتع به تلك الدول من موقع استراتيجي وجيوسياسي مهم بالنسبة للمنافذ المائية والبرية، وما تملكه من مقدرات نفطية ومالية هائلة. وهذا ما يُفسَّر الحرص الإيراني على التمسك العسكري والسياسي بها.

وعلى الرغم من أن السياسة التي تبنتها إيران قد أسفرت عن احتلال مناطق واسعة في المشرق العربي إلا أن استراتيجية مهندس السياسة الخارجية الإيرانية الجنرال قاسم سليماني اعتمدت تكتيك الفوضى التي أدت إلى إسقاط الأنظمة والدفاع عن أخرى بدوافع طائفية, لم تدخل في حسابات مصالح تلك الشعوب.

بل على العكس، أدى تحالف طهران مع واشنطن في العراق إلى إسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين, مما أدى إلى انهيار المؤسستين العسكرية والأمنية، وفتح الباب أمام تأسيس سليماني لميليشيا الحشد الشعبي الموالية لإيران, وكذلك أسهم في بلورة ميليشيا الحوثي في اليمن, كما يعتبر الوصي على ميليشيا حزب الله اللبناني, عدا عن اجتذاب الآلاف من الميليشيات المتعددة الجنسيات, وزجهم في أتون الصراع السوري, وسعى سليماني إلى توظيف سياسة الفوضى في كل هذه البلدان، حتى بات حجم وعُمق الأذرع  الشيعية التي اشتغلت عليها إيران على مدى عقود قوة لا يمكن تجاهلها. وباتت تنافس المصالح الأميركية في المنطقة.

في الآونة الأخيرة, عبرت الولايات المتحدة عن خطأها الإستراتيجي المتمثل بسياسة الرئيس السابق باراك أوباما, الذي وافق إيران على إشاعة الفوضى في المنطقة, لذلك لجأت إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى تفعيل استراتيجية مجابهة إيران عبر محاولة تعديل الملف النووي التي رفضتها طهران, فكان الخيار المتاح فرض عقوبات اقتصادية, عبر تجفيف منابع العملات الصعبة التي يحصل عليها النظام الإيراني، حيث استهدفت الولايات المتحدة قطاع النفط بشكل مباشر، وهو المصدر الذي يغذي خزينة الملالي, وشملت العقوبات قطاع الصلب والحديد والألومنيوم والنحاس وهو ثاني مصدر للعائدات الربحية من الصادرات غير النفطية لطهران.

ظهر تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني بما أحدث من تداعيات حقيقية على الداخل الإيراني وعلى استراتيجيتها الإقليمية الرامية إلى مواصلة الهيمنة على المنطقة. فعدم توافر العملة الصعبة جعلت إيران عاجزة عن تسديد فواتير ميليشياتها ودفع رواتبهم وأصيب اللوبي الإعلامي الإيراني بمقتل لفشله في ديمومة متابعة الدعاية الإعلامية المخادعة التي تساهم في تثبيت أجندتها الإقليمية المناهضة لحلفاء أميركا في الخليج خاصة, والمنطقة بشكل عام.

الحدث الكبير

إن قاسم سليماني, باعتباره مهندس السياسة الخارجية الإيرانية, اختار الانتقام من الولايات المتحدة في العراق أو في أي مكان آخر في المنطقة، لدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر بسياستها المستجدة اتجاه طهران.

وعلى الرغم من أن التنافس بين الولايات المتحدة وإيران لا يتجاوز التراشق الإعلامي, طيلة أربعة عقود من حقبة الملالي، إلا أن الجنرال سليماني حاول إسقاط تجربة السفارة الأمريكية في طهران عام 1979م على حادثة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، وقبل ذلك أمر رفيقه وتابعه أبو مهدي المهندس بالهجوم على قاعدة "كي وان" في كركوك وقتل متعاقد مدني أمريكي وأصيب خمسة آخرين، مما دفع الولايات المتحدة إلى التصعيد والقيام بقتله على أسوار مطار بغداد في وقت مبكر من صبيحة 2يناير/كانون الثاني الجاري.

بعد قتله, من الواضح أن هناك تغيير واضح في تحديد شكل وطبيعة المواجهة القادمة بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة. والتي يمكن ملاحظتها في المناطق الواقعة تحت النفوذ الإيراني, وذلك من خلال اتباع أساليب استراتيجية مع حلفائها التقليديين في المنطقة واستثمارا للظروف التي تعيشها تلك الدول التي تهيمن عليها إيران وتقاوم شعوبها النفوذ الإيراني كالعراق ولبنان وسوريا واليمن. وبالإمكان تفصيلها بما سيأتي:

ــ الإمساك بالملف العراقي:

تبدو عودة الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وبقوة للمشهد العراقي من خلال الرجوع عن استراتيجية" الفوضى" التي استحدثتها بالتشارك مع الجنرال سليماني, منعا لانهيار ما تبقى من العراق وكذلك عودة الجماعات الراديكالية لنشاطها مجددا, ولعل اغتيال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، سيؤدي إلى بداية طريق تخلص العراقيين من  الهيمنة الإيرانية في حال تمكن التحالف بقيادة الولايات المتحدة من دعم حكومة عراقية مستقلة لاستكمال القضاء على نفوذ إيران في العراق. والآن، من الضروري أن تستثمر الولايات المتحدة تداعيات مقتل سليماني وتتبع سياسة منظمة وعميقة بالتركيز على مصالحها المشتركة مع عراق يتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية, وهذا هو مطلب الشيعة قبل السنة أو المكونات العراقية الأخرى التي ضاقت ذرعا بالنفوذ الإيراني.

ــ  العودة إلى الملف السوري:

 من الملاحظ  أن هناك عودة للولايات المتحدة على طريق الحل السياسي للملف السوري, بعد العبث الروسي به ونقله من أدراج الأمم المتحدة إلى آستانا, مما يتوجب على واشنطن التخلي عن سياسة إدارة هذا الملف الاستراتيجي  عبر الوكلاء, وهذا ما أتاح لروسيا الهيمنة على سوريا، ومن ثم، تهميش دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتهديد مصالحها. كما أن العودة إلى هذا الملف تضع حدّا لمحاولات إيران الاستيطان العسكري والبشري في الجنوب السوري للضغط على إسرائيل بقصد الدخول بمفاوضات ماراثونية لتسوية ملفاتها المعقدة دوليا واقليميا, وهذا يتطلب بداية, إبعاد ميليشيات إيران عن الجنوب السوري, وإغلاق ممرها البري عبر منفذ البوكمال الحدودي, ودعم فصائل المعارضة العسكرية لدفع الميليشيات الإيرانية في الشمال السوري, مما يوفر للولايات المتحدة الدور الأكبر في المشاركة ببناء مستقبل سوريا، ويساهم في تأمين مصالحها بعد فشل روسيا ايجاد مخرج للمسألة السورية عدا عن ارتكاب المجازر وإشاعة الفوضى وانهيار الاقتصاد.

ــ تطويق إيران في اليمن:

لاشك أن الولايات المتحدة تبذل جهودا كبيرة في اليمن تجسدها التطورات الأخيرة، حيث اتبعت أسلوب محاصرة النفوذ الإيراني هناك دون الدخول في صراع مباشر. ولكن أي جهد مبذول في مواجهة إيران دون التنسيق مع المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى للوصول إلى تسوية الصراع اليمني. لن يكون مجديا, لذلك لابد من تفعيل العلاقة الأمريكية السعودية بخطوات مدروسة تتضمن حماية المصالح المشتركة بالتضييق على الحوثيين الذراع الإيراني في اليمن من خلال ضبط الحدود الشطرية أمنيا وعسكريا, ودعم الحكومة الشرعية المتمثلة بالرئيس هادي, وإغلاق كافة المنافذ البرية والبحرية منعا لوصول الأسلحة والميليشيات الإيرانية إلى الحوثيين, واستصدار قرارات من الأمم المتحدة لكل خطوة عملية في اليمن منعا لتعاظم النفوذ الإيراني على الحدود الجنوبية لدول الخليج العربي. 

خلاصة

تشير التطورات الجارية, على أن الولايات المتحدة تنحو باتجاه دعم الاستقرار في العراق واليمن وسوريا، بعد سنوات طويلة من الصراعات، ولكن الخطوات الأميركية البطيئة تستدعي عملا مدروسا بالتركيز على الدول والشعوب الملتزمة بمجابهة التوسع الإيراني في المنطقة.  كالمملكة العربية السعودية والشريحة الواسعة من الشعب اليمني والسوري والعراقي واللبناني, ولعل تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أمضى الأسلحة الفتاكة للحد من الهيمنة الإيرانية الخارجية, ولا تتوقف المجابهة على الولايات المتحدة إذ أن دولة بحجم المملكة العربية السعودية ومعها أغلبية الدول الخليجية, المفترض أن تبادر إلى العمل المنظم لتفعيل استراتيجية المواجهة الآنية والبعيدة المدى ضد المشروع التوسعي الإيراني.  ولن تكتمل مواجهة النفوذ الإيراني إلا بإيجاد حلول سياسية لكل الدول التي تهيمن عليها إيران كسوريا والعراق واليمن ولبنان.  

تركي مصطفى – إيران إنسايدر

اليمن